بكيت بحرقة مرتين؛ الأولى عندما توفى والدى وأنا بعيد عنه، والثانية يوم الإثنين السادس من أغسطس عندما قرأت خبر رحيل أستاذى ومعلمى وأحد أعمدة الصحافة فى مصر الأستاذ عبدالعال الباقوري.
أول مرة تعرفت فيها الراحل كانت فى بداية الثمانينات فى مكاتب جريدة "الاتحاد" فى أبوظبي.. كنت وقتها حديث العهد بالعمل الصحفى وكنت أعمل فى قسم أرشيف الصور فى جريدة الاتحاد وفى أوقات الفراغ أكتب بعض الخواطر التى كانت أقرب إلى الدردشات منها إلى المقال!
كنت خجولا مما اكتبه لقناعتى بأنها عبارة عن خربشات أو شخابيط وكلمات بسيطة لا معنى لها.. وكنت على قناعة تامة بأن من يقرؤها سوف يضحك لا محالة، فبحثتُ عمن يقبل بقراءة ما أكتب دون أى تعليق سلبى قد يجعلنى أتناسى حكاية العمل فى الصحافة نهائيا!...
فى أحد الأيام كتبت مقالا، أو هكذا ظننت، وبعد قراءتها ومراجعتها أكثر من عشر مرات، تجرأت وتوجهت من مكتبى فى الأرشيف إلى صالة التحرير فى جريدة الاتحاد، حيث كان يجلس الراحل عبدالعال الباقورى رئيس قسم الأخبار الدولية آنذاك.. فى هذه الصالة أيضاً كان يجلس الكبار الذين تأسست هذه الجريدة الإماراتية العريقة على إيديهم.. المرحوم الأستاذ مصطفى شردي، والكاتب والصحفى والمؤرخ جمال بدوي، والكاتب المؤرخ عباس الطرابيلى وهم من مؤسسى صحيفة "الوفد" المصرية العريقة.. أسماء كان لها صيت وهيبة ومكانة رفيعة فى عالم الصحافة.
كان الاقتراب من صالة التحرير له هيبة خاصة عندما كان للصحافة مكانة ومنزلة وقيمة.. فقد كانت هذه الصالة تحتضن خيرة ما أفرزته الصحافة فى مصر الشقيقة وفطاحل الصحافة فى بقية الوطن العربي.. دخلت الصالة وتوجهت إلى المرحوم الأستاذ عبدالعال الذى كان ببشاشته وهدوئه ودماثة خلقه وقربه من زملائه، الأقرب إلى نفسى للتشاور معه.. فقرأ المقال ثم نظر إلى هامساً بهدوء ودون أن يسمعه أحد: ("سمك، لبن، تمر هندي!"... (وهى جملة متعارف بها بين المصريين، وعندما تسمع أحدهم يضرب هذا المثل المصري، تدرك على الفور أنه يقصد من يحاول تحقيق الانسجام بين ما لا ينسجم، والتوفيق بين عناصر لا تتفق.)..
غادرت مكتبه وعدت إلى قسم الأرشيف متحسراً ونادما على اننى تجرأت وأطلعته على مقالي.. ولكن فى اليوم ذاته، وقبل انتهاء الدوام فوجئت بالأستاذ عبدالعال يدخل إلى مكتبى الصغير فى الأرشيف وبيده مقالى بعد أن راجعه وعدّله وصححه وأضاف إليه بعض الكلمات والجمل والمعلومات، ثم سلمه لى قائلا: "أنت يا أخ عبدالله كاتب جيد.. سوف يكون لك شأن فى صالة التحرير.. لا تتأثر سلبا ولا تيأس ولا تتوقف عن الكتابة.. فقط اقرأ ما يقع تحت يديك"..
تلك الكلمات المشجعة أدخلتنى عالم الصحافة، ومن هنا بدأت رحلتى مع العمل الصحفى الذى امتد منذ 1981 وحتى يومنا هذا.. دخلت صالة التحرير بتشجيع من المرحوم عبدالعال الباقورى الذى أقنع رئيس التحرير الأستاذ خالد محمد أحمد بالسماح لى بالجلوس فى قسم الأخبار الخارجية.. وكان رحمه الله يقول دائما: "هنا ستتعلم كيف تكتب الخبر.. هنا سوف تتعلم ألف باء الصحافة"!
فى الأخبار الخارجية تشرفت بالعمل تحت إدارة الراحل عبدالعال الباقوري، "بوياسر"، فتعلمت الكثير والكثير جدا على يديه.. تعلمت أن أقرأ كثيرا، وأتابع كل صغيرة وكبيرة وألا أُهمل أدق التفاصيل مهما صغرت.. تعلمت فى الكتابة من هذه القامة الكبيرة الصبر والجلد والتماسك وأسلوب التقاط وجمع وحفظ المعلومة.. وتعلمت أن أسأل وأسأل وأسأل ولا أدعى العلم والمعرفة لأنه كما قال لى أستاذى الراحل "بوياسر" (لا يوجد كبير فى فضاء الصحافة).
كان مجتمع صالة التحرير قويا، متماسكا، مترابطا، متكاتفا، يحتضن جميع الأقسام؛ الدسك المركزي، المحليات، الأخبار الدولية، التحقيقات، الثقافة، الاقتصاد.. والأستاذ رسام الكاريكاتير المحبوب والكوميدى المرحوم حامد نجيب... المرحوم عباس الشهاوى فى التحقيقات، فؤاد أيوب وجمال أبوطالب فى المحليات، مغازى شعير فى الاقتصاد الأستاذ أحمد عمر (سوداني) رئيس التحرير لجريدة "الإمارات نيوز " Emirates News آنذاك، حمدى نصر وتوفيق الطهراوى (فلسطيني) فى الرياضة، طه النعمان (سوداني) من قسم الدراسات والبحوث، وغيرهم العشرات الذين لا تحضرنى الذاكرة بذكرهم.. كنّا معاً قالبا واحدا نتقاسم الأفراح والأحزان، كنّا دائماً نحاول أن نسرق من أيّامنا لحظاتٍ جميلة، نحاول أن تكون هذه اللحظات طويلة، نحاول أن نحقّق شيئا يذكره التاريخ للأجيال التى سوف تأتى من بعدنا.. ومع تصاريف الأيام ومَضِى قطار العمر، يصبح القضاء والقدر هو سيّد الموقف، ونصل لقناعة وإيمان ويقين بأنّه ليس بيدنا حيلة أمام تصاريف القدر، وتقلّباته..
رحل من رحل، وبقى من أعطاه الله العمر المديد.. سوف تبقى فى خلايا الذاكرة يا استاذ عبدالعال.. ستبقى طيفا فى ذاكرتى ما حييت.. فأنت "بوياسر" الذى جمع حوله كل من نهل من نبع "الاتحاد".
برحيل الأستاذ عبدالعال الباقوري، نكون قد فقدنا أحد أجمل الرجال المحترمين فى الصحافة.. فقد كان الفقيد قمة كبيرة وعلما من أعلام الكتابة الصحفية..
ساهم الفقيد فى إعداد وتدريب الكوادر الوطنية من الصحفيين والإعلاميين الإماراتيين الذين عملوا معه فى تلك الحقبة المهمة من تاريخ الصحافة فى الإمارات وهم الذين تتلمذوا على يديه ومنهم أنا والزملاء محمد يوسف، عادل الراشد، وعلى جاسم ومحمد الحوكر وسعيد المعصم وعلى أبو الريش، وغيرهم العشرات من الصحفيين الذين استفادوا من خبراته.
والكاتب الفقيد عبد العال الباقورى كانت له اهتمامات كبيرة بالشأن الفلسطينى وبالقضية العربية، وأصدر مؤلفات عدة حول القضية الفلسطينية.. كان حب فلسطين يجرى فى شرايينه، وأطلق اسم "ياسر" على أكبر أبنائه حبا منه للزعيم الفلسطينى الراحل "ياسر عرفات". وكانت آخر كتاباته رحمه الله وهو على فراش المرض فى مصر عن القضية الفلسطينية وحق العودة عقب المسيرات التى انطلقت داخل الأراضى الفلسطينية فى مارس الماضي، بتحذير القيادة الفلسطينية وقيادة مسيرة "حق العودة"، من محاولة ضرب إسرائيل للوحدة الوطنية، مطالباً بضرورة استعادة دروس النضال الوطنى الفلسطينى منذ عام 1993 وحتى الانتفاضة الأولى.
لقد كان الراحل الكبير قيمة عظيمة وقامة مهنية قلما يتواجد فى الوطن العربى مثلا له.. لم أستطع السيطرة على دموعى وأنا اقرأ السطور الأخيرة التى كتبها قبل أن يودع الحياة: "الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.. وقد سقط التاج عن رأسى فجأة، أو قل سقط خطوة.. خطوة إلى أن وجدت نفسى طريح الفراش لما يزيد عن شهر.. ولا تزال التبعات مستمرة والحمد لله على ذلك.. ليس من حقى أن أخوض فى تفصيلات أيام وليالى العلاج والمرض.. فليس أطول من ليالى المرضى سوى ليالى العشاق".. ، بهذه الكلمات عبر الفقيد فى آخر مقالاته، عن رحلته مع المرض، التى استغرقت عدة أشهر انتهت فى 6 أغسطس 2018.
قدر الكبير أن يبقى كبيرا.. وأنت يا "بوياسر" عشت كبيرا ورحلت كبيراً.. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان وإنا لله وإنا اليه راجعون.
........