مثلما فردة حذاء قديمة، تغوص في ماء عكر، تبدو هيئة أولئك الذين واللواتي، وهم ينهقون جماعيًا وغوغائيًا، بأن مذيعة التلفزيون الرسمي عزة الحناوي، طعنت الموضوعية وخاصمت الحياد، لمّا حجرت على الضيف، بإظهارها عبر الشاشة ما تنحاز إليه، فالانحياز في الإعلام، كالملابس الداخلية الوسخة، ليس يجوز أن يراها أحد.
القول إذا أُخذ مجردًا، لا تشوبه شائبة، بل يعد المعيار الذي يجعل صحفيًا مهنيًا وآخر "كُفتجيًا"، مع الاعتذار للعالم الفذ اللواء عبدالعاطي وشريكيه، المؤقت "البركة" عدلي منصور، وفخامة جناب الطبيب الفيلسوف المشير المدني المنتخب.
غير أن ما يجعل المشهد مثيرًا للغثيان حقًا، أن أولئك الذين واللواتي، يقترفون منذ أبصرنا وجوههم الذئبية، الفواحش الإعلامية ما ظهر منها وما بطن، وليس الانحياز خطيئتهم الوحيدة فحسب، لكنهم يتمرغون كعاهرة تفحُّ شبقًا، في سرير كل من حكم، كانوا مباركيين فثوريين فعسكريين فإخوانًا فمنقلبين على كل شيء فمصاصي دماء.
عزة الحناوي خرقت المهنية، لا شك، ومن ينفي تلك الخطيئة، فإنما هو يجافي ضميره المهني، متراقصا في كف هواه السياسي، لكن النظر في المشهد العام على اتساعه، يجعل توجيه التهمة إلى المذيعة التي هاجمت فشل رأس السلطة، أو بالأحرى نجاحه الكبير في الفشل، بخرق الحيادية، عبثًا يراد به وجه العبث.
حملة مشاعل الموضوعية، في حد ذاتهم يجعلون الصورة هزوًا، ويكفي أن كاتبًا صحفيًا فيهم لو أبصره نجيب محفوظ، لمزق جائزة نوبل، مستصغرًا موهبته الثرية، كونها لم ترسم القواد في شخصية محجوب عبدالدايم، في رائعته "القاهرة 30"، على نحو ذاك الفارس المقدام في المعارك الحُنجرية منها فقط.
البعيد وقف في صف مبارك، حينما كانت دماء الشعب، تراق في ميادين الحق والخير والصدق والعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، ثم تشدق بنضاله المكذوب في وجه المخلوع، ثم تحالف مع أولي اللحى والضمائر الخربة، المخلب الذي مزق منذ اليوم الأول، لحم الثورة الطري، ثم هنأ جماعة الإخوان الوطنية الشريفة، بوصول رجلها إلى الرئاسة.. هكذا قال.
الذي نفرت دماؤه غضبًا لانتهاك الموضعية، طلع علينا ذات كذبة دنيئة، آلت في الضمير الشعبي إلى نكتة سيُؤرخ بها للمرحلة، وهي كذبة العلاج بالكفتة، ليزعم بأن سيده ذرف الدمع حين رأى الجهاز العجيب يشفى المرضى، ويجعل العجوز شابًا، والقردة ملكة جمال، من دون أن ينسى شتيمة رافضي المسخرة، وهو كان إذ يقترف دناءته كان يهتف بالتوازي بحب البلد وسقوط الخونة.. ثم عاد مؤخرًا ليقول بأنه ذرف الدمع مجددًا، حينما تحدث عن الفقراء، من فرط رقة قلبه، ورهافة أحاسيسه، وهو أمر غريب حقًا، فالبكاء هنا وهناك اقترنا بما يوحي ظاهريًا بالمرحمة، لكنهما في واقعهما عمليتا تدليس قاسية، فانكشاف أكذوبة العلاج بالكفتة، كان بالضرورة وجيعة قاسية لملايين المرضى بالتهابات الكبد، وبالتوازي تهوي قرارات رفع الدعم مطارق ثقيلة على رؤوس الفقراء، ممن يقال لهم في مفارقة مخاطية، إنهم مقصرون في حق الوطن، وعليهم أن يلقوا عليه تحية الصباح، بجنيه تبرعًا.
إلى جوار ذاك الـ"محجوب عبدالدايم"، ينضم إلى جوقة دعاة الموضوعية، إعلامي أقرع ذو باروكة، منع صحفيا شابًا يشهد بعينيه مجزرة رابعة، من أن يقول إنه يرى قوات الشرطة تضرب في الصدور، ما دفع الأخير إلى أن يحتد غاضبًا، ليلقنه درسًا في الإعلام، متسائلًا: "ما دمت تريدني أن أردد كلامك، فلماذا تتصل بي؟.. إنني شاهد العيان".
الذي خرّف وزور ولم يستقبح أن يقول إن قائد الأسطول الأمريكي سقط أسيرًا، وإن الإخوان أخرجوا المسلمين من الأندلس، يهاجم الحناوي لأنها قالت: "يا فاشل يا فاشل".. وعلينا أن نصدق بأنه ينطلق من قاعدة مهنية وأخلاقية.
معهما في الخندق ذاته، غوغائي كخنزير بري، حقق قفاه رقمًا قياسيًا في تلقي الصفعات، يلوك أعراض الناس بلا رحمة، يشتم أبناء محافظات بأسرها، ويبوس رجلي الفاشية، إلى حد صراخه يومًا حين عرف بأن قوات الشرطة قتلت أربعة في مظاهرة: "أربعة فقط.. كنت أريدهم أربعمائة"، من دون أن نسمع صوتًا وقتها عن الموضوعية ولا المهنية والأخلاق ولا حتى الإنسانية.
في الفريق ذاته، من قال تعليقًا على توزيع مالك وشادي واقيات ذكرية، للسخرية من تأمين الميدان في ذكرى الثورة، إن رجال الشرطة قدموا للوطن تضحيات لا ينكرها إلا خائن، ولولاهم لكان الواقي الذكري بجوار أمهما، ومن أوغل في قلة الأدب، فقال إنه لولاهم لكان في "مكان ما"، ملمحًا بمنتهى السفالة إلى مؤخرتهما، فلم ينبس أحد ببنت شفة، بأن تلك بذاءات مكانها المواخير، لا شاشات التلفزيون، ناهيك عن الذي عاير المذيعة بسمنتها، فردت له الصاع صاعين، حينما عايرته بـ"عقلة الثخين".
هؤلاء ليسوا إعلاميين في الأصل، حتى نعتبر حديثهم عن المهنية، حديثًا يعتد به، إنهم يمثلون الوجه الإعلامي، لما يسمى ثورة الثلاثين من يونيو، سدنة المعبد، التجسيد الأمثل لتحالف الجهل مع الجهل، والفشل مع الفشل، والفساد مع الفساد، والقبح مع القبح.
ليست المهنية القضية، وليس الوقت وقتها، وإلا لما احتجب برنامج ثري مثل برنامج يسري فودة، واستعمر الشاشات أولئك، الذين واللواتي ممن ينطبق عليهم قول شاعرنا مظفر النوّاب: "أولاد القحبةِ ليست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم".