كانت علاقة نجيب محفوظ بالسياسة جزءا من علاقته بالعالم فهو فيلسوف اختار الأدب لعرض أفكاره، ونجح فى طرح أكثر الأفكار تعقيدا فى تساؤلات وصور وتفاصيل شديدة التشابك، ولم يخل عمل من أعمال نجيب محفوظ من أسئلة كونية عن الخلق والحياة والموت والوجود والعدم، وفى السياسة التى ظل على هامشها كان قادرا على عرض آرائه وآراء أبطاله ونجح إلى حد كبير فى رسم تاريخ اجتماعى شديد الثراء لمصر طوال ما يقرب من القرن، ولهذا تبدو محاولة إطلاق أحكام وتقييمات على روائى بحجم نجيب محفوظ أمرا يخرج من سياقات الأدب والفكر إلى النشاط السياسى، وهو أمر لم يكن نجيب محفوظ مهتما به، بينما يبنى مشروعا روائيا هو الأعمق فى تاريخ الأدب المصرى والعربى.
نقول هذا بمناسبة صدور الكتاب المهم لمحمد شعير «أولاد حارتنا سيرة الرواية المحرمة»، وما آثارته الناقدة سيزا قاسم فى ندوة أقيمت عن الكتاب، واعتبرت نجيب محفوظ «جبان»، وقالت إنه كان يخشى مواجهة التيارات الإسلامية والسلطة والصدام معهما، وهو ما كشفته ملابسات روايته «أولاد حارتنا».
حديث الدكتورة سيزا غطى على الكثير من المناقشات التى طرحها مثقفون حول الكتاب المهم لمحمد شعير، الذى يمثل توثيقا مهما لسيرة الرواية، باعتبار أولاد حارتنا كحدث كانت تحولا فى الأدب، مثلما كانت تحولا فى العلاقة بين المثقف والسلطة سواء السلطة الدينية أو السلطة السياسية.
فكرة إطلاق أحكام قيمة على نجيب محفوظ نقلت الجدل إلى مساحة أقل كثيرا من المساحة التى يحتلها، وتجاهل بعض من انخرطوا فى تقييم سياسى لنجيب محفوظ أن الرجل دفع دمه ثمنا للرواية، عندما تلقى طعنة بسكين فى رقبته من متطرف نفذ حكما بالقتل على أديب لم يقرأ له حرفا، ثم إن الحكم بالجبن أو الشجاعة على أديب أو مفكر يبدو متأثرا بحالة من الضجيج السياسى شاعت خلال السنوات الأخيرة، ولم تفرق بين الأديب والناشط السياسى، وقد رأينا أدباء أغرتهم حالة الفوران الصوتى فأنتجوا أدبا أقرب للمقالات الحماسية ومنشورات التنظيمات السياسية.
وأهم ما يمكن به مواجهة من يزايدون على مواقف نجيب محفوظ، يأتى من الأديب الكبير نفسه، الذى ترك كل تيار وفصيل يتعامل مع أدبه من زاويته الخاصة لم يقدم تفسيرا ولا شرحا لمواقفه، ووجد كل تيار أو جماعة لدى نجيب محفوظ ما يريده، بعض اليسار اعتبره أديبا طليعيا، بالرغم من أن اليسار خاصمه لفترة ليست قصيرة، عندما تعاملوا معه كأديب «برجوازى»، والليبراليون وجدوا فيه ممثلاً لمصر ثورة 19، والمتصوفة وجدوا لديه حساً صوفياً، والمعتدلون رأوه رمزا للتسامح، والمتطرفون كفروه وحاولوا اغتياله، والناصريون رحبوا بآرائه المنصفة لمشروع عبد الناصر التقدمى والاجتماعى، وأغضبتهم أعماله التى انتقد فيها التعذيب وغياب الديمقراطية.
وفى النهاية، كان نجيب محفوظ مبدعا قادرا على إثارة الدهشة ولا تزال أعماله جزءا من تراث إنسانى وإبداعى لا ينفد، بل وقادر على إثارة الدهشة لدى أجيال لم تعاصره، وسيظل كذلك مثل أى إبداع إنسانى عظيم، ولعل هذا هو ما يطرحه كتاب محمد شعير عن السيرة المحرمة لرواية أولاد حارتنا، كأنه يقدم رصدا توثيقيا لسيرة نجيب محفوظ المحرمة، التى تظل قادرة على إثارة الدهشة والإعجاب والصدمة والأفكار العظيمة.