و كما هى العادة سوف أفتتح مقال اليوم بكلمات النبى الكريم صلى الله عليه و سلم " إنما بُعثتٌ لأُتمم مكارم الأخلاق " و بوصف المولى عز وجل نبيه الكريم ( إنك لعلى خُلق عظيم )
نقف لنتأمل كثيراً أهمية الأخلاق و تأثيراتها القوية على صلاح العباد و إصلاح البلاد
فماالذى أصاب مجتمعنا أعزائى بمرض انعدام و تدنى الأخلاق ، إذ بنا نُفاجأ يومياً بأخبار تقتحم مسامعنا و تؤذى مشاعرنا و عادة ما تصيبنا بالذهول من قتل الزوج لزوجته المستغرقة بالنوم نظراً لعدم استجابتها لشهوته الحيوانية ، لقتل آخر لزوجته التى أنجبت له البنت الرابعة إذ ألقى بها من الشرفة أى أنه ليس فقط انعدام للخلق و لكنه أيضاً قمة الجهل و الإنحطاط ، لآخر محسوب على الوسط الفنى يطالب المجتمع الإعتراف بالمثليين و غيرها من الغرائب التى لا يقو العقل على استيعابها !
وسوف نتوقف فى مقال اليوم عند القيمة الأخلاقية التى كانت تُعد من أقوى الفضائل التى تحلى بها المصريون و أرسخها على الإطلاق .
ولكنها أعزائى باتت اليوم ذكرى جميلة نسترجعها عندما كانت و نتحسر على ضياعها و نتألم لفقدانها تحت أنقاض الغش و الرياء و الانحدار الأخلاقى الذى طغى و استوحش بشكل جعل منه أمراً معتاداً مألوفاً وما دون ذلك تحول إلى مجرد استثناء نادر الوجود !
فقد ذكر المولى عز و جل الأمانة فى عدد كبير من المواضع للتأكيد على أهميتها و فضلها الكبير فى حسن المعاملات بين البشر .
قال تعالى " بسم الله الرحمن الرحيم "﴿ أن اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أن اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أن اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: ]٥٨
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: ]٢٧
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون ]٨-١١
﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ أن خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِى الْأَمِينُ ﴾ [القصص: ٢٦
و عن الأمانة كقيمة أخلاقية كما ذكرت فى المقالات السابقة فهى أيضاً من أهم الفضائل التى عرفها الإنسان منذ قديم الأزل و شرعها و وثقها و عمل بها للوصول إلى مجتمع فاضل يسعى إلى تحقيق المثالية ،على سبيل المثال فقد وضع المصريين القدماء فى قوانين الماعت ال 42 شريعة أمة فجر الضمير : عدد كبير من تلك القوانين يرسخ قيمة الأمانة مثل:
أنا لم أسلب الآخرين ممتلكاتهم بالإكراه
أنا لم أسرق
أنا لم أسرق الطعام
أنا لم اختلس القرابين
أنا لم أسرق ممتلكات المعبد
أنا لم أخطف الطعام
أنا لم أغش (أخدع) أحد
أنا لم أغتصب أرض أحد
فكيف لمجتمع أن ينهض وقد افتقد الأمانة أى ثقة كل منا فى الآخر وائتمانه على أى شىء بعدما تحول الأمر الواقع إلى كارثة تجعل على كل شخص أن يضع عينيه بوسط رأسه كما يقولون من باب المبالغة، لأنه لا يثق حتى فى من يسير بجانبه أو أمامه أو خلفه ولا يثق بجاره و لا زميله فى العمل !
ومن أهم الأضرار و السلبيات المدمرة التى تصيب المجتمع نظراً لانعدام الثقة فى الآخر الغير أمين حالة الركود الاقتصادى و كساد عمليات البيع و الشراء و احتكار السلع و المنتجات لأن كل مستورد أو تاجر كبير كان أو صغير سيخشى المبادرة وطرح سلعته لتخوفه الأزلى من عدم الحصول على مستحقاته المالية أو تعرضه للنصب من الطرف الآخر والذى بات أمراً متوقعاً فى الأغلب الأعم !
فهل نتذكر أعزائى الماضى السعيد: عندما كان هناك أمان وكانت هناك أمانة بين الناس ، فمن شعر بحاجة أخيه أو صديقه أو جاره يسعى مهرولاً لاقتسام كل ما يملك معه لفك ضيقه وهو على ثقة تامة بأنه بعد انفراج أزمته سيسترد ماله مع الشكر والامتنان و أن شاء القدر و تعرض هو لنفس الموقف فإن قلبه سيكون مطمئناً لأنه سرعان ما سيجد من يقضى حاجته .
وحتى أن لم يمهله القدر لتأدية أمانته فإن أولاده أو ذويه يقومون حتماً برد الأمانة حيث كان أمراً طبيعياً و عرفاً مجتمعياً و تشريعاً دينياً يحترمه الجميع على حدٍ سواء .
فكما ذكر المثل الشعبى المصرى العتيق :من آمنك لم تخونه و لو كنت خاين "
كانت هذه مصر و تلك أخلاق المصريين التى عهدناها و تربينا عليها و زرعها أجدادنا من آلاف السنوات وسارت عليها الأمة قبل أن تنهال علينا رمال الزيف و الكذب و الجشع و الغش و الفهلوة (النصب ) بمعنى أدق و غيرها من الآفات الخلقية الواردة على مجتمعاتنا حديثاً !
فقد حثنا صاحب الخلق العظيم نبينا محمداً صلى الله عليه و سلم كما وصفه الله عز و جل على الإلتزام بالأمانة التى أن ضاعت أضاعت كل شىء ، حتى أن العلاقات الإنسانية بين الناس و بعضها و بين الزوجين و غيرها ترتكز بشكل أساسى على الأمانة و الثقة المتبادلة بين الطرفين فمن الأمانة ما يكون بين الإنسان وصاحبه من الأمور الخاصة التى يجب ألا يطلع عليها أحدٌ من الناس ، فلا يجوز لأحدهما أن يخبر به ، وإلا فإنه مضيع للأمانة، بل أن النبى صلى الله عليه وسلم عد التفات الرجل إذا حدث أخاه أنه موجب لحفظ أمانة هذا الحديث، لأنه يدل على أن هذا الرجل يخشى أن يسمعه أحد! قال النبى صلى الله عليه وسلم: {إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهى أمانة} رواه أبو داود وحسنه الألبانى.
ومن الأمانة أيضا ما يكون بين الرجل وزوجته من الأشياء الخاصة، فالعلاقة الزوجية من أخص العلاقات الإنسانية ، فمن خان هذه الأمانة ونشر سرا مما يكون بينهما، فإنه من أشر الناس منزلة عند الله تعالى يوم القيامة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم:
{إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة الرجل يفضى إلى امرأته وتفضى إليه ثم ينشر سرها} رواه مسلم.
فليس من الرجولة أن يفشى الرجل سر امرأته كما يفعل بعض السفهاء، بل الرجولة فى أداء الأمانة وحفظ الأسرار.
و خير ختام لمقال اليوم عن فضيلة الأمانة هى كلمات الصادق الأمين صلى الله عليه و سلم
عن أبى هريرة قال : بينما كان النبى صلى الله عليه وسلم فى مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابى فقال :
متى الساعة ؟ قال : " إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة " . قال : كيف إضاعتها ؟ قال : " إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " . رواه البخارى
وعن حذيفة فى حديث الشفاعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتى الصراط يمينا وشمالا " رواه مسلم .
إلى لقاء قريب مع قيمة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق .