من حيث نتصور أننا أصبحنا أرقى من أسلافنا، ننحط عنهم درجات كثيرة، ولو نظرنا بعمق فى مرايانا لرأينا وحوشا وكائنات مشوهة تعود إلى عصور سحيقة.
ومن حيث نعتقد أننا أبناء أصلاء للمدنيات الحديثة، نسكن فى منازل مكيفة وعمارات شاهقة ونرتدى الجينز ونأكل من «ماك»، ونقود أحدث السيارات، نفقد قيمنا البشرية التى لولاها ما تقدمنا فى مسار التطور خطوة واحدة، وعدنا إلى صورتنا الأولى بدائيين جاهليين برابرة، ننهش بعضنا بعضا، ويقتل القوى منا الضعيف.
فى أسبوع واحد أغرقتنا موجات الأخبار المتدافعة بخبرين عن جرائم قتل أسرية، ويا لها من جرائم، أب تجرد من كل مشاعر الأبوة وقتل طفليه بإلقائهما فى ترعة فارسكور بدمياط، وأم انتزعت قلبها من حنايا صدرها، وألقت بطفليها فى «بحر يوسف» بالمنيا، الأب القاتل ادعى أنه يطالع كتبا عن الجن، ودورها فى الكشف عن الآثار، كما برر جريمته بأن المخدرات التى يتعاطاها أصابته بلوثة عقلية، أما الأم القاتلة فبررت جريمتها بالخلافات الزوجية المستمرة التى وضعتها فى حالة نفسية سيئة.
لا يمكن لعاقل أو صاحب ضمير يقظ أن يقبل بتبريرات الأب القاتل، أيا كانت، كيف اصطحب ولديه فى سيارته، وهو يعرف أنه سيقتلهما؟! كيف رد على مداعباتهما له؟! كيف جاوب حوارهما الطفولى ولغتهما المكسرة بلغة تشابهها؟! كيف رد على سعادتهما برفقته بضحكات وقبلات الأب الحنون؟! كيف هاتف أمهما مدعيا أنهما تعرضا للاختطاف بينما ينوى إغراقهما بدم بارد وقلب ميت؟! هل أدار وجهه بعيدا وهو يقتلهما حتى لا يلمح تلك النظرة المرعوبة التى يختلط فيها الخوف بالدهشة؟! أم ظل على خسته وهو يضغط على رأسيهما فى الماء حتى لفظا أنفاسهما؟!
ولا يمكن لإنسان مازال يحمل مشاعر وقيما وعقلا أن يبتلع تبريرات الأم القاتلة، ما دخل الخلافات الزوجية بالأطفال الأبرياء؟! ما دخل غضبك من الزوج وكراهيتك له بدم ولديك؟! لماذا تنفثين عن كراهيتك وغلّك فى الطفلين بدلا من مواجهة الزوج الكريه؟! ألأنهما الحلقة الأضعف منك، مثلما أنت الحلقة الأضعف من الزوج؟! ألم يكن من الممكن تفادى القتل بأن تغادرى إلى أرض الله الواسعة؟! أكان لابد من إلقاء الطفلين فى البحر الغريق؟! ألم يحترق قلبك عليهما وأحدهما رضيع لم يتجاوز الستة أشهر؟
فى عصور الجاهلية الأولى، كان العرب يقتلون الأبناء فيئدون البنات خوفا من عار السبى، ويقتلون الأولاد خوفا من الفقر، وكان منهم من يقتل أبناءه وبناته وفاء لنذر، أو ممارسة لطقس غالب بفعل الجهل وسطوة المعتقدات البدائية الغشيمة، وفى عالمنا المعاصر لم يعد هناك خوف من السبى إلا فى المناطق المنكوبة بداعش وأشباهه من التنظيمات المتطرفة وهو غير حاضر، والحمد لله فى بلدنا، أما الفقر لحد الإملاق والمجاعات، فهى والحمد لله غير موجودة فى بلادنا، ومازال الفقراء فينا يجدون الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية والسلع المدعمة ابتداء من الخبز وحتى اللحوم، أما الطقوس البدائية فنعوذ بالله منها وندعوه ألا يدخلنا التجربة.
ومع ذلك، فقد ابتلينا بمجموعة أمراض أخرى تفسد طبيعتنا الآدمية، وتحولنا إلى وحوش تقتل أقرب الناس إليها، ابتلينا بالقسوة والجشع والشقاء، قست قلوبنا حتى باتت لا ترحم صغيرا أو كبيرا، لا امرأة ولا شيخا ولا طفلا، وتسلط الجشع على نفوسنا، فأصبحت نهمة إلى كل عرض زائل أيا كان مصدره، تقليدا للنماذج الاستهلاكية والنجوم الزائفة، وأصبح الشقاء بديلا للرضا، وكأننا ملعونون بالعطش الذى لا يرويه ماء.
اللهم ارحمنا
اللهم ارحمنا
اللهم ارحمنا