لا شىء أخطر من مساحات الفراغ، يملأها الزمن بكل مالا تتوقع ومالا تحب، وما يتسرب لإفساد كل شىء، وتتضاعف جهود إصلاح ضررها.
يعرف القدماء أن كل أرض متروكة دون رعاية أو عناية تصبح مساحة مفتوحة يحتلها النبت الشيطانى، بعضه سام وبعضه يؤثر على ما تزرعه يسلبه القوة والتأثير ويسمح بنمو ما لا يجب أن ينمو، لذا كان أهل الزراعة والفلاحة يغضبون وينتفضون لصد أى هجوم من الحشائش الضارة على الزراعات، خوفًا من أن تسلب الثمرة الطيبة قوتها ونضارتها وتؤثر على المحصول المرجو كمًا وكيفًا.
فى أرض الزراعة كما فى أرض المجتمع والدولة إن تركت المساحات فارغة امتلأت بظواهر ضارة، ورموز شيطانية فى السياسة والثقافة والرياضة والفن، تخرج للنور دون منهج واضح أو معايير منضبطة أو أهداف طيبة تتغذى على كل شىء حتى لو كان على حساب الوطن والمجتمع وقيمه ومستقبله ومصالحه.
تترك الساحة الإعلامية دون رعاية أو معايير كفاءة وانضباط، يملأ الهواة مساحات الفراغ ويسعى النبت الشيطانى لتنجيم نفسه وتصدر الصورة والتلاعب بعقول الناس، ثم تستيقظ أنت شاكيًا ممن يحاربون الدولة بالشائعات ويربكون مؤسسات الوطن بجهلهم، ويدمرون قيم المجتمع من أجل مصالحهم، نفس الحال فى الرياضة تترك ساحتها فارغة ينبت لك شيطانيًا من يسمون أنفسهم نقاد وإعلاميون رياضيون ينشرون التعصب ويدمرون الرياضة لصالح من يدفع لهم أكثر، وهكذا فى السياسة والدين وباقى مناحى الحياة.
نفتقد إلى فن السيطرة على مساحات الفراغ بزرعة طيبة، بصور وطنية واعية ومثقفة تقدم مصالح الوطن والمجتمع على مصالحها حتى نقطع الطريق أمام هؤلاء الذين يتسللون إلى حياتنا عبر قنوات السوشيال ميديا المختلفة والفضائيات التى تبث إلينا سمومها من الخارج، ويحولهم الإلحاح وأحيانًا الهجوم غير المدروس على مايقدمونه إلى نجوم مجتمع يتربحون من خلف الاتجار بقيمه وبمصالحه ومستقبله.
فى الماضى كانت مصر دولة تجيد ترتيب مساحات أرضها، تجتمع كل قوتها لصناعة أيقونات أدبية وثقافية ورياضية وإعلامية، كتاب ورموز قادرون على التأثير ودعم الدولة وتشكيل الرأى العام بما يتوافق مع أهداف الوطن العليا والحفاظ على قيم المجتمع وأصوله، يظهر عبدالحليم حافظ من العدم، ويتحول إلى أيقونة فنية، ويتقدم إلى صفوف التأثير الأولى قامات مثل توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وكلما يخفت نور كاتب أو أيقونة ما تلحق الدولة المساحة التى تركها فارغة بآخر تفتح أمامه الأبواب ليملأ هذا الفراغ، هكذا كان الحال أجيال تسلم أجيالًا دون أن تترك أرضًا فارغة يملؤها نبت شيطانى صناعة الخارج أو هوى التريند على السوشيال ميديا كما هو الحال الآن.
انظر مثلا إلى جريدة الأهرام فى عز سطوتها وقوتها حينما أرادت أن تعزز مكانة نجيب محفوظ بعد فترة من الغياب عن الكتابة الأدبية، نشرت إعلان عودته برواية أولاد حارتنا فى صدر صفحتها الأولى بهذا الشكل الذى يخبر العالم أن مصر تملك كاتبا وروائيا كبيرا فجاء نص الإعلان كالتالى: «اتفقت الأهرام مع نجيب محفوظ كاتب القصة الكبير على أن ينشر لها تباعًا قصته الجديدة الطويلة. إن نجيب محفوظ هو الكاتب الذى استطاع أن يصور الحياة المصرية تصوير فنان مقتدر مبدع، ولذلك فإن قصصه كانت حدثا أدبيا بارزا فى تاريخ النهضة الفكرية فى السنوات الأخيرة. ولقد وقعت الأهرام مع نجيب محفوظ عقدا يصبح للأهرام بمقتضاه حق النشر الصحفى لقصته الجديدة مقابل ألف جنيه. والأهرام لا تذكر هذا الرقم ـ وهو أكبر مبلغ دفع فى الصحافة العربية لقصة واحدة ـ تفاخرًا أو «دعاء، وإنما تذكره لتسجل بدء عهد جديد فى تقدير الإنتاج الأدبى».
الفترة الماضية كانت الصحف تنفر من الصفحات الأدبية، وتترفع عن تنجيم أهل الأدب وكانت النتيجة تصدر مجموعة من الهواة إلى المشهد الأدبى، وصدور عدد من الكتاب والدواوين منخفضة الوعى سخيفة الأسلوب عبر السوشيال ميديا تحول أصحابها إلى رموز ونجوم، مثلما حدث فى مجال الإعلام ونجح مجموعة من الشباب عديمى الموهبة والقيم فى تصدر الصورة بمجموعة من الفيديوهات الساخرة بشكل دفع بعض القنوات لتقديمهم إلى الناس بصفتهم مذيعون وإعلاميون مما جعلهم نجوما وأوصياء على المجتمع حتى وصلنا إلى درجة ارتداء أحدهم البامبرز لجمع أكبر عدد من اللايك والشير.
حينما بدأ البعض كتابة «بوستات» على فيس بوك تحصد عددا كبيرا من اللايكات والشير، ظهرت بعض الأصوات العاقلة وحذرت المجتمع ووسائل الإعلام من تحويل أصحاب هذه البوستات إلى نجوم وفقا للانتشار على حساب المضمون، وقتها هتف العقلاء: «انتبهوا بلاش تشجعوا الخواطر الشخصية وتفهموا أصحابها إنهم مفكرين وكتاب وأدباء»، فجاء الرد سريعا من مهاويس السوشيال ميديا لماذا تخافون منا، لماذا تحاربون حرية التعبير.
الآن الكل يصرخ حينما تحول أهل بوستات الفيس بوك إلى نجوم يجمعون لايكات بسبب مضمون ساخر يهدم قيم المجتمع ويزيف ويزور القصص والمعلومات، ويطلقون على أنفسهم كتابا وشعراء وخبراء رغم تفاهة المنتج المطروح والمعلومات المغلوطة والقصص الخايبة المسروقة والجهل المدفون بين السطور.. بس خلاص أصحاب المنتج ده بقوا مشاهير.
نفس الأمر يتكرر مع بعض نجوم السوشيال ميديا الذين بدأوا بصناعة فيديوهات ساخرة لا تعتمد على منهج علمى، ولا تتم وفق معايير المحتوى المصور أو التليفزيونى التى تهدف للصالح العام، انتشرت هذه الفيديوهات وتحول أصحابها مثل خليل كوميدى وعمرو راضى وأحمد التباع وغيرهم إلى نجوم يجمعون المال والشهرة وتهرول خلفهم الفضائيات، وحينما اعترض بعض العقلاء على تنجيم هؤلاء ظهرت أصوات الهوس لتصرخ لماذا تخافون من السوشيال ميديا والحرية، إنهم يكشفون فشل الإعلام التقليدى ثم حولوهم إلى مذيعين ونجوم إعلانات، وبالتالى إلى رموز ونجوم فى المجتمع يدمرونه لصالح زيادة رصيد الأموال القادمة من يوتيوب أو فيس بوك.
الآن تتصاعد الشكوى من المحتوى المبتذل الهدام الذى يقدمه هؤلاء فى فيديوهاتهم، بعد أن وصلنا إلى قيام واحد من نجوم الفيديوهات يدعى عمرو راضى بالظهور على الناس وهو يرتدى بامبرز فى مشهد مقزز مثل المشهد الذى تحول فيه متحرش التجمع إلى نجم، الآن تتصاعد شكواكم من خطورة هؤلاء على المجتمع بينما أنتم كنتم أول من صنعوهم بغرض التسلية أو ركوب التريند.