كل شعوب العالم تحتفل بيومها الوطنى، حدث مهم، تاريخ فارق، موقف مشهود، إسهام فى تاريخ البشرية، شىء يرتبط به الشعب أو تريد الإدارة السياسية أن تربط به الشعب، فماذا هو اليوم الوطنى المصرى الذى يجتمع فيه كل المصريين على حب مصر والاحتفال بها؟ ما هو هذا اليوم الذى يجب أن ننتبه إليه ونحفظ تاريخه لأولادنا لكى يفخروا ببلدهم ويجاهروا بالفخر بها؟
أعتقد أن أهم يوم من هذه الأيام هو يوم رأس السنة المصرية القديمة، وبالتقويم المصرى فإننا ننتظر فى يوم 11 سبتمبر المقبل أول أيام عام 6260 بحسب التقويم المصرى الذى سبق التقويم الميلادى بـ4242 سنة، وفى الحقيقة فإننى لا أدرى أى هدر نعيشه الآن ونحن نترك أكثر من أربعة آلاف عام من السبق العالمى تائهة فى كتب التاريخ مهجورة فى كتب العلم، غريبة عن الأذهان والعقول والأفهام والألسنة؟
فى هذا اليوم منذ أكثر من ستة آلاف عام كان المصرى القديم يخرج إلى الحدائق، يمرح بجوار النيل، يحتفل بخروج الكون من فصل الموات «الصيف» ويبتهج بدخول فصل الحياة «الشتاء» سبعة أيام يحتفل فيها بالزرع والمياه، إجازة من الشقاء، استراحة محارب يتلقف أنفاسه بعد أن قطعتها حرارة الجو وقسوة الفيضان، لتبدأ دورة الحياة من جديد، ويبدأ الزرع والحصاد والخير.
منذ قديم الأزل يحتفل المصريون بهذا اليوم احتفالا مهيبا، فقد اشتاقوا إلى «توت» أول شهور السنة المصرية الذى سمى باسم الإله «توت» أو «تحوت» إله العلم والفكر، وصاحب أول نظرية صوفية لتبجيل الخالق الواحد القهار، ذلك المعبود الأسمى الذى لا يختلف فى تصوره عن «الله» فى الديانات السماوية المقدسة، فهو الواحد فى كل، والكل فى واحد، الذى ليس كمثله شىء، المنزه عن كل تجسيد، والباقى بلا نهاية، والبادئ بلا بداية.
فى الحقيقة فإننى لا أشعر بغصة تقارب غصة إغفال الحضارة الفرعونية بجلالها وعظمتها، فقد كانت وصايا «توت» هى أول كتاب حقيقى يصف الخلق ويبحث فى أصوله، ويضع تصوراته عن الله والخير والشر، كتاب صوفى حقيقى نهل منه أكبر فنانى العالم، حتى خشى الأوروبيون أن تصبح «التوتية» ديانة جديدة فطعنوا فى تلك الوصايا زاعمين بتحريفها أو عدم أصالتها، لكنى مع هذا لا أرى مانعا من أن نعيد اكتشاف هذه الوصايا، وأن نعيد الاحتفال برأس السنة الفرعونية لأنها ببساطة تعنى الاحتفال «بالحياة» فى مقابل تلك الثقافة الصحراوية المشوهة التى تحتفل بالموت.