نعم نعم، نحن الآن نشهد فى أيام معدودات وأشهر يسيرة وسنين قليلة ما دار فى تاريخ البشرية كلها، وسبق وقلت أكثر من مرة، إننى لم أكن لأفهم الكثير من تاريخ الإسلام لولا رؤيتى لما دار فى مصر بعد 25 يناير 2011، لم أكن لأفهم كيف تتم المتاجرة بالشعارات، وكيف يقيم النخاسون مزايدة على المبادئ والأفكار، وكيف يتاجر السياسيون فى النهاية بأحلام البسطاء وتطلعاتهم، وكيف يتسلط تجار الدين على عقول الرجال والنساء والشباب والأطفال فيحشونها بالآثام والموبقات والإجرام، مقنعين إياهم بأنهم يحسنون صنعا، وفى كل يوم تتوغل فيه مواقع التواصل الاجتماعى فى حياتنا أستطيع أن أفهم تلك الحالات المسعورة التى وقف فيها الرأى العام بجانب الضلال بكل إخلاص وحماس.
«صَفُّونا.. صفّاً.. صفّاً
قالوا: صيحوا.. زنديقٌ كافر
صحنا: زنديقٌ.. كافر
قالوا: صيحوا، فليُقتل أنَّا نحمل دمه فى رقبتنا
فليُقتل أنا نحمل دمه فى رقبتنا
قالوا: امضو فمضينا
الأجهرُ صوتاً والأطول يمضى فى الصَّفِّ الأول
ذو الصوت الخافت والمتوانى
يمضى فى الصَّفِّ الثانى»
بهذا المشهد الجبار يفتتح الشاعر العظيم صلاح عبدالصبور مسرحيته الخالدة «مأساة الحلاج»، فيصور بصدقه الفنى العالى ورؤيته الشعرية المفارقة ما يمكن أن تفعله العامة من جرائم منكرة وهى لا تدرى، أو ربما لا تدرى ولا تبالى، وفى واقعة مشابهة تخبرنا الروايات المسيحية بطريقة اتفاق الجموع على قتل المسيح، وفى واقعة مشابهة أيضا يخبرنا التاريخ المصرى كيف قتلت هيباتيا، تلك العالمة المصرية العظيمة التى كانت تعلم الأطفال الفلك والحساب والرياضة والفلسفة فلم يرض عنها رجال المسيحية حديثو العهد بالإيمان.
يلخص أحمد شوقى تلك المسألة فى قوله:
«يَقضونَ ذَلِكَ عَن سَوادٍ غافِلٍ
خُلِقَ السَوادُ مُضَلَّلًا وَمَسودا»
والسواد هنا هم «العامة» أو «الجموع المحتشدة» الذين لا تتميز ملامحهم ولا تختلف عن بعضها بعضا من شدة ازدحامهم، فلا ترى منهم سوى سواد شعر رؤوسهم، وكقولك «السواد الأعظم من الناس»، غير أن الفارق الوحيد بين تلك الحالة الغوغائية الحيوانية التى قرأنا عنها قديما فى كتب التاريخ والأدب، وما يحدث الآن هو أنه لكى تحشد هذا «السواد» لابد أن تكون لديك فكرة لامعة أو خطاب مؤثر، أما الآن فيكفى «بوست» كاذب على مواقع التواصل الاجتماعى لكى يحتشد حولك الآلاف ويهتف معك الآلاف، فيصنعون من الزيف صنما، ومن الكذب هيكلا، ومن القىء وحيا مقدسا، فتتحول مواقع التواصل الاجتماعى إلى مواقع للقتل الجماعى.