بالطبع، فإن متابعة أخبار الحوادث فى الصحف والإعلام تشير إلى تغير كمى ونوعى فى معدلات وأنواع الجريمة، وقد يلتفت البعض إلى جرائم القتل بشكل عام، والقتل العائلى بشكل خاص، ويفترض أن تخضع معدلات الجريمة إلى دراسات وفحص وتحليل للتعامل معها تشريعيا واجتماعيا، ونشير إلى أن بعض متابعى الجريمة يرون أنها تعكس تحولا فى مصر بشكل كبير خلال العقود الأخيرة، حيث ظهرت أو ارتفعت بعض أنواع من الجرائم لم تكن موجودة فى المجتمع من قبل، الأمر الذى يدفع بعض المحللين إلى إطلاق أحكام بأن المجتمع المصرى لم يكن بهذه الصورة ويبالغ البعض فى رسم صورة لمجتمع مثالى غير موجود فى الواقع.
لا توجد مجتمعات مثالية لا فى الماضى ولا فى الحاضر، لكن يمكن ربط التزايد الكمى للجرائم ارتباطا بزيادة عدد السكان، ومعروف أن العقوبات الرادعة غالبا لا تمثل علاجا فعالا فى جرائم القتل والجريمة المنظمة، التى تمثل انعكاسا لميول إجرامية لدى مرتكبيها، خاصة أن الكثير من هذه الجرائم لا يتم مصادفة أو بشكل تلقائى، لكنها تخضع لتخطيط وإصرار لدى المجرمين.
وعندما نقارن معدلات الجريمة فى مصر بمثيلاتها فى العالم، نكتشف أن المجتمعات المتقدمة اقتصاديا واجتماعيا هى الأخرى ترتفع بها معدلات الجريمة، والقصد من المقارنة هو إثبات أن الجريمة ظاهرة إنسانية يفترض النظر لها بعيدا عن التصورات المثالية، حيث لا يمكن القضاء على الجريمة نهائيا، لكن المهم هو تفهم جذورها وتحليلها لتطوير طرق المواجهة.
وربما يفاجأ البعض عندما يعرف أن معدلات الجريمة فى مصر أقل من مثيلاتها فى الكثير من الدول المتقدمة، وأن مصر مثلا تعتبر من الدول ذات معدل الجريمة المتوسط بين دول أمريكا الشمالية وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والهند بل وأوروبا، وهذا لا يعنى أننا مجتمع مثالى، لكن يؤكد أنه لا توجد مجتمعات مثالية، لكن توجد محاولات لمواجهة الجريمة والتقليل من تأثيراتها أو مواجهة المجرمين بالشكل الذى يقلل من أخطارهم، وهذا يتطلب تحليل معدلات وأشكال وأنواع الجريمة.
وبالتالى، فإن ارتفاع معدلات الجريمة فى مصر، خلال العقود الماضية، يثير القلق، لكنه يظل فى سياق النسبة العالمية، فلا يوجد مجتمع خال من الجريمة ولا مجتمعات مثالية، بل إن المجتمعات الأكثر تقدما بها أعلى معدلات لجرائم مختلفة من القتل إلى الاغتصاب، وتحتل الولايات المتحدة الأمريكية صدارة الدول فى جرائم القتل الفردى والجماعى. فى يونيو الماضى اقتحم أمريكى مكاتب صحيفة كابيتال جازيت اليومية فى مدينة أنابوليس بولاية ماريلاند، وأطلق النار وقتل خمسة من الصحفيين والعاملين وجرح آخرون، والقاتل شاب درس علوم الكمبيوتر، وليس أجنبيا ولا متطرفا، ويحتل المجتمع الأمريكى أعلى نسبة جريمة فى العالم، خاصة الهجمات على المدارس والجامعات، والمحال التجارية، والأماكن العامة، والمؤسسات الخاصة، والملاهى، أخطرها قتل شاب أمريكى 17 طالبا فى مدرسته الثانوية السابقة، فى باركلاند بولاية فلوريدا، فبراير الماضى.
كانت أكبر عملية قتل جماعى فى التاريخ الأمريكى المعاصر أول أكتوبر الماضى فى لاس فيجاس بولاية نيفادا، ارتكبها الأمريكى ستيفن بادوك الذى تجاوز عمره الستين عاما، وقتل 58 شخصا وجرح مئات آخرين، بينما كانوا يحضرون أمسية موسيقية، ولم يكن القاتل صاحب سوابق. وهناك تقارير أخرى عن ارتفاع جرائم العنف فى أوروبا وجنوب أفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبالنظر إلى قوائم الدول التى تشهد معدلات جريمة أعلى، نجد مصر فى الدول المتوسطة، وهو ما يدعو للقلق، ويستدعى التحليل، بحثا عن الأسباب وتمهيدا للمواجهة، خاصة أن الردع العقابى وحده لا يكفى لتعديل سلوكيات المجرمين.