منذ سنوات عديدة قرأت جملة كتبها صلاح عبدالصبور، فصارت هذه الجملة نبراسا لى فى حياتى، أتعامل معها باعتبارها مسلمة، أقيس عليها العديد من الأمور الأخرى، أستخدمها فى موضعها وفى غير موضعها، فأجدها صالحة فى كل موقف، تلك الكلمة تقول: «إننى أكره الإيمان السهل كما أكره الإلحاد السهل»، وفى تلك الجملة يلخص صلاح عبدالصبور خبرته فى الحياة والفكر والفلسفة، يلخص تجربته الشعرية الصعبة من حيث البناء الكلى والتفاصيل الجزئية، يلخص الفارق ما بين الحقيقى والمزيف.
يقول المثل: «ما يأتى سريعا يذهب سريعا» أو قل ما يأتى «سهلا» يذهب «سهلا»، والسهولة هنا لا يقصد بها الشىء التلقائى الذى يأتى على حين غرة، بل يقصد بها استعذاب ما هو موجود أصلا، واستهلاك المشاع بين الناس، فلكى يؤمن الواحد فلا بد أن يكون له إيمان خاص، نابع من تفنيده لكل المعتقدات وانتهائه إلى نتيجة تؤكد له ما يعتقد فيه، والإلحاد أيضا على هذا المنوال لا يأتى لأن الواحد لا يريد التقيد بأى شىء، بل يأتى لأنه يريد التقيد بالحقيقة، وفى طريق بحثه هذا يمر بالعديد من التجارب ويتعرف على العديد من الخبرات، وفى طريق البحث يعرف ما هو خير وما هو شر، يعرف ما هو مشترك إنسانى راسخ وما هو زائف كاذب، وبالتالى يكون نسقا أخلاقيا خاصا يقى إنسانيته من الانحدار، كما يكون المؤمن الذى كون إيمانه الخاص نسقا أخلاقيا يقيه من عبث العابثين.
على هذا فأنا مثل صلاح عبدالصبور تماما أكره الإيمان السهل، لأنه لا يدل على إيمان راسخ، بل يدل على شيوع حالة التقليد بين الناس، كما أكره الإلحاد السهل، لأنه ليس موقفا من الوجود وإنما موقف ضد الوجود، أكره أيضا المدنية السهلة لأنها لا تحتوى فى داخلها على نمط حضارى يعيش فيه الإنسان وبه، بل تحتوى على عدة مظاهر «فارغة» تجهل من المدنية جاهلية، كما أكره البدوية السهلة لأنها لا تلتزم بالنسق الأخلاقى والاجتماعى البدوى الذى كان يناسب عصرها، بل تلتزم بعدة مظاهر جافة عجفاء لا تناسب العصر ولا تناسب الإنسان، أكره أيضا التحرر السهل، لأنه لا ينم عن تحرر حقيقى، وإنما ينم عن رغبة مهلكة فى كسر التقاليد، وأكره المحافظة السهلة لأنها تعنى الجمود والركود.
العيب هنا ليس فى المبدأ، العيب فى كيفية اعتناقك للمبدأ، لأن كيفية الاعتقاد هذه هى ما تجعل المبدأ «مبدأ» دون هذه الشروط، سنغرق فى الزيف والأكاذيب والمظاهر الفارغة التى تضعنا فى عالم من المحاكاة للحياة، وليس فى الحياة نفسها.