قسم الله عز وجل الأموال التى يموت عنها مالكوها على ورثتهم الأحياء بآيات محكمات قطعيات دلالة وثبوتًا حتى لا يختلف الناس فى زمن من الأزمنة ولا فى مكان من الأمكنة حول النصيب المستحق لوارث من الورثة، ولا يدعى مَن لا ميراث له فى التركة أنه من المستحقين لنصيب منها، ولذا تعد المواريث من الفروض المفصلة فى كتاب الله وليس المجملة، والناظر فى سورة النساء يجد غالب حالات الميراث مفصلة بينة.
وقد جعل الله عز وجل النصيب المذكور للوارث فرضًا ليس لبشر أن يغيره فينقص منه من دون طيب نفس من الوارث، أو يزيد عليه من غير رضا بقية الورثة، حيث ذُيلت بعض الآيات بقوله تعالى: «نَصِيبًا مَفْرُوضًا»، وحذرنا رب العالمين من أكل أموال الآخرين ومنهم الورثة من دون وجه حق، فقال تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ».
ومع ذلك، فإن كثيرًا من حقوق الميراث تضيع بين أمرين: أما الأول، فهو الظلم والجشع وشح النفس من قبل بعض الورثة؛ حيث نجد فى بعض الحالات أن مَن يسيطرون على التركة تحت أيديهم كأبناء الميت الذين يعيشون معه يحرمون غيرهم من المستحقين كأم الميت وأبيه أو أخواتهم البنات، ففى حال أم الميت وأبيه ربما يظن أولاد الميت أن جديهما - ولا سيما إن كانا من الأغنياء - لا يريدون شيئًا من تركة ابنهما الميت، وقد يكون هذا حقيقيًّا فى كثير من الحالات، وقد لا يكونان راضيين عن أكل أبناء الميت لنصيبهما المستحق لهما، وهو ثلث التركة على الأقل، وهذا دون شك أكل لمال الناس بالباطل، وإنما يجب إعلام الجدين بنصيبهما وتمكينهما منه أولًا، فإن تنازلا عنه أو بعضه طواعية فلا بأس عندئذ بقسمته بين أبناء الميت أو بعضهم دون بعض إذا ما تنازل الجدان أو أحدهما لبعض أبناء الميت كالصغار أو المرضى دون بعضهم الآخر، فالمال المستحق للجدين حق خالص لهما يتصرفان فيه كما يشاءان، شريطة ألا يكون قصدهما حرمان بقية الورثة من أخذه ميراثًا بعد موتهما.
وفى حال بنات الميت، فإن منع توريثهن فى الغالب موروث باطل وشبه عرف فاسد، ولا سيما فى بعض المجتمعات، حيث يستنكفون انتقال جزء من تركة الميت إلى ابنته التى قد تكون زوجة لرجل لا يمت لأبيها بصلة، مما يعنى فى نظرهم انتقال جزء من التركة إلى قبيلة أو عائلة أخرى! أضف إلى ذلك أن أولاد الميت الذكور ربما يستضعفون البنات ويمنعونهن حقهن قهرًا أو بعين الحياء الغالب على النساء، وربما يكتفون بسؤالهن إذا ما كُنَّ يريدن شيئًا من الميراث، فإن قالت البنت «لا» ولو من باب الحياء، اعتبروا ذلك تنازلًا منها يحل لهم بعده أكل المستحق لها! وهذا إثم عظيم، فعلى الرغم من أنه لا مانع شرعًا من تنازل البنت عن حقها لصالح إخوتها أو بعضهم، فإن ذلك مشروط بأن يكون تنازلًا عن رغبة حقيقية دون ضغط أو إكراه أو استغلال للحياء المعهود عن البنات.
وأما الأمر الثانى الذى يضيع به الحق بين الورثة، فهو الجهل بشروط الميراث وأحكامه؛ فمن شروط الميراث ثبوت حياة الوارث حقيقة أو حكمًا، وهذا الشرط يشتمل على صنفين من المستحقين للميراث يضيع حقهما فى بعض الحالات، فقد تدخل امرأة غرفة التوليد فتموت فى أثناء ولادتها بعد أن تلد مولودها فيموت هو الآخر بعدها، أو يموت المولود بعد ولادته ثم تموت الأم داخل غرفة التوليد، فإذا خرجت الطبيبة أو الطبيب فأخبر بموتهما فالغالب أنه لا يسأله الأقارب أيهما مات أولًا، ويقسمون تركة الأم بين ورثتها دون اعتبار للمولود. وهذا خطأ كبير، ففى حال موت الأم قبل مولودها بلحظة ينتقل جزء من تركتها إلى مولودها باعتباره ابنًا أو بنتًا لها، وقد تنتقل إليه كل التركة، كما لو لم يكن للأم المتوفاة أم أو أب وكان مولودها ذكرًا وليس لديها أبناء غيره، وهذه التركة التى انتقلت إلى ابنها الذى مات بعدها تكون قسمتها على ورثته وليس ورثة الأم، فإن كان لهذه الأم المتوفاة إخوة وكان لابنها عم، فالتركة لعم الابن وليس لإخوتها شىء، وهذا ليس لكونهم لا يستحقون من تركة أختهم شيئًا، فهم ورثتها إن لم يكن لها ولد أو أبوان، ولكن لأن التركة انتقلت عند موتها لابنها الذى لحق بها، ووارثه فى هذه الحال هو عمه وليس أخواله.
ومثل هذه الحال يحدث كثيرًا فى حالات الموت الجماعى كما فى حوادث الطرق مثلًا، حيث لا يهتم الناس بمعرفة مَن مات قبل الآخر، وهذا خطأ كبير، فقد يكونون أقارب يرث بعضهم بعضًا، كما لو كانوا والدًا وأولاده وأحفاده مثلًا، فالفارق الزمنى الذى يثبت بين كل منهم فى الموت يترتب عليه كثير من حالات الميراث والانتقال السريع للتركات، فمثلًا لو مات الأب أولًا قبل أولاده ثبت لكل واحد منهم نصيبه فى تركة أبيه، فمن مات منهم بعده بلحظة انتقل ماله إلى ورثته، ومنهم إخوته الذين يموتون بعده بلحظة فينتقل مالهم متزامنًا أو متتاليًا إلى ورثتهم، وهكذا، ومن ثم، فإن غالب الحوادث التى يترتب عليها موت جماعى لا يصح اعتبار أن مَن ماتوا فيها قد ماتوا معًا فى وقت واحد، خاصة إذا كانوا أقارب كما ذكرنا، ويمكن للأطباء إثبات من مات أولًا ومن مات بعده، فالخطأ فى تحديد من مات أولًا ولو بلحظة ينبنى عليه ضياع حقوق على مستحقيها وانتقالها إلى غير مستحقين، ولذا، فإنه من الواجب على شهود الحوادث والأطباء تسجيل من مات أولًا ومن لحق به ولو بلحظة، وإخبار ذويهم بذلك لتقسم التركات تقسيمًا صحيحًا، فإن لم يمكن ذلك اعتُبروا ماتوا معًا فى لحظة واحدة، وعندئذ لا يجرى بينهم توارث، وهذا ما يحدث فى غالب حالات الموت الجماعى دون سؤال أو تحرٍّ، وهو خطأ كبير متى أمكن تحديد وقت الموت.
أما الشق الثانى من شرط الميراث الذى ذكرناه، وهو تحقق حياة الوارث حكمًا، فهو يتعلق بالحمل فى بطن الأم؛ فقد يتعجل الورثة قسمة مال الميت بين زوجته وأولاده دون سؤال زوجته عن وجود حمل من عدمه، وهذا يضيع حق الجنين فى تركة أبيه من ناحية، ومن ناحية أخرى يؤدى عدم معرفة نوع الجنين إلى خطأ فى تقسيم التركة، فإذا ما كان هناك حمل وكان هذا الحمل ذكرًا، فهو يمنع أعمامه فمن دونهم الميراث، ولا يرث معه إلا جده لأبيه، وأمُّه، أو جدتاه. واستعجال التقسيم دون معرفة وجود الحمل ونوعه، ولا سيما إذا كان الحمل فى بدايته ولا تشعر به المرأة، يجعل التركة فى مسألتنا هذه تقسم بين زوجة الميت وأبيه، فتعطى الزوجة الربع فى حين أن نصيبها المستحق هو الثمن فقط، ويعطى الأب الباقى وهو ليس له من التركة إلا سدسها!
وعليه، فإنه من الواجب تمكين كل وارث ووارثة من نصيبه المستحق، وعدم اعتباره راضيًا بانتقال حقه إلى غيره من دون تعبيره هو أو هى طواعية، منعًا للظلم وأكل مال الناس بغير حق، ومن الواجب كذلك نشر ثقافة تحرى وتسجيل أوقات مفارقة مصابى حوادث السير وغيرها من حوادث الموت الجماعى وإعلام أولى الأمر بها، ولا يُحكم بموتهم جميعًا إلا عند تعذر إثبات من مات أولًا ومن لحق به، ويجب أيضًا تحرى ما إذا كانت زوجة الميت حاملًا قبل قسمة تركته حتى لا تضيع الحقوق بالجهل والتفريط.