عندما تشرع فى قراءة القرآن الكريم، تكون على موعد ومع بداية كل سورة مع قوله تعالى «بِسْم الله الرحمن الرحيم».. وهنا يُذكرنا ربنا بأنه هو الرحمن الرحيم، وصف ربى نفسه بالرحمة وأمرنا أن تكون فينا وبيننا، ولأنك إنسان فوجب عليك أن تشعر بكل من حولك، وتنظر ماذا تستطيع أن تقدم لهم، وأن تشمل بالرحمة كل ما يحيط بِك من مخلوقات، وهنا تتجلى الإنسانية فى أوضح صورها.
فكان على سبيل المثال معاتبة ربنا سبحانه لنبيه الكريم حين أراد تقسيم الصدقات على فقراء المسلمين دون فقراء أهل الكتاب آنذاك، فنزل قوله تعالى «ليس عليك هداهم»، فيعلمُنا ربنا أن الإنسانية تراعى الإنسان واحتياجه حتى ولو كان على غير ديننا.
- واتسعت دائرة الإنسانية لتشمل ما سوانا من المخلوقات وأوضح لنا رسولنا عظيم الأجر على الإنسانية والرحمة بكل صاحب حاجة، ففى صحيح البخارى ومسلم، عن أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وآله وسلم - قَالَ: «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنْ الْمَاءِ؛ فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ»-اللفظ للبخارى.
وعلى هذا تأسست الحضارة الإسلامية، حيث إن الإسلام هو دين الرحمة والتسامح والإنسانية والمساواة، هو دين «يعطى كل ذى حق حقه»، فى الحياة والمعاملة الحسنة.
وقد قام المسلمون فى تاريخ هذه الأمة بدورٍ رائدٍ فى العناية بالفقراء من الناحية الطبية، من خلال توفير أماكن صحية تمنح العلاج والمأوى للفقير، بدون أجر، بل وتهتم بالجوانب النفسية للمريض، وتعتنى به فى فترة النقاهة بعد خروجه من تلك المشافى، التى كان يطلق عليها «البيمارستانات»، وكانت معظم البلاد فى الدولة الإسلامية لا تكاد تخلو من البيمارستانات ولاسيما العواصم الكبرى، ففى الشام كان البيمارستان النورى، وفى العراق كان البيمارستان العضدى.
وكان أول من بنى البيمارستان فى الإسلام، هو الخليفة الأموى الوليد بن عبد الملك، عام (88 هـ) وعين فيه الأطباء، وأجرى عليهم المرتبات، وحفاظا على الصحة العامة فى المجتمع المسلم، كان المرضى المصابون بالجذام يعزلون فى أماكن خاصة، يُمنحون فيها الطعام والرعاية دون مقابل، وكانت هناك عناية بفاقدى البصر، فكانت تصرف لهم إعانات خاصة من الدولة، ويعين لهم من يساعدهم فى حياتهم، وكان أصحاب الإعاقات من الفقراء يجدون ما يكفيهم من مؤونة الحياة التى توفرها الدولة آنذاك.
تذكر كتب التاريخ أن الخليفة «عمر بن عبد العزيز» أصدر أمرا لولاة الأقاليم برعاية المكفوفين، جاء فيه:
«انظروا الشيخ المكفوف، الذى يغدو بالأسحار، فخذوا له ثمن قائد، لا كبير فيقهره، وليس بصغير فيضعف عنه»..
وكان أول بيمارستان عرفته مصر فى عهد أحمد بن طولون، المسمى بـ«البيمارستان العتيق» عام (259هـ=872م) فى الفسطاط، وجعل له الأوقاف واشترط ألا يعالج فيه جندى أو مملوك، فجعله لعامة الناس، وبلغت نفقاته أكثر من ستين ألف دينار سنويا، وكان ابن طولون يزور البيمارستان، ويتفقده بشكل دورى، وأمر أن يقدم خدمة الإسعاف للمصلين يوم الجمعة، وكان به مكتبة ضخمة تضم ما يزيد على المائة ألف كتاب فى كافة العلوم.
وكذلك أقام الناصر صلاح الدين الأيوبى البيمارستان الناصرى، أما أفخم بيمارستان فى مصر والعالم الإسلامى فكان الذى أنشأه المنصور قلاوون (683 هـ = 1284م) وكان يُسمح فيه بالعلاج للرجال والنساء، وكان يعتنى فيه بالنواحى النفسية للمريض، حتى كانت هناك فرق موسيقية، وأشخاص من رواة القصص يمرون على المرضى؛ ليرفعوا معنوياتهم.
وبالطبع كانت بعض العلاجات ذات تكلفة عالية، نظرًا لاستقدامها من بلاد بعيدة «مثل الهند والصين»، مما دفع البعض كالطبيب الإنسان «أبوبكر الرازى» إلى كتابة ما عُرف بـ«طب الفقراء» ، وهو مما جعله يوصف بأنه: «حسن الرأفة بالفقراء والمرضى حتى كان يُجرى عليهم الجرايات الواسعة، وأنه رؤوف بالمرضى مجتهد فى علاجهم»، ووضع «الرازى» كتابين، هما: «برءُ ساعة»، وهو رسالة صغيرة، وهى تشبه كتب الإسعافات الأولية والسريعة للأمراض التى يُصاب بها الإنسان، ويمكن للشخص أن يعالج نفسه منها، ولا تحتاج إلا لزمن قصير للشفاء، أما كتابه الثانى فهو «من لا يحضره طبيب» وهو كتاب كبير نسبيا، ويسمى، أيضا، «طب الفقراء والمساكين».
يقول فى مقدمته: «لما رأيت الفضلاء والأطباء فى تصانيفهم ذكروا أدوية وأغذية لا تكاد توجد إلا فى خزائن الملوك، أحببت أن أجعل مقالةً وجيزةً فى علاج الأمراض بالأغذية والأدوية المشهورة الموجودة عند العام والخاص، ليكون أحرى أن ينتفع بها الناس فى مرحلهم ومرتحلهم».
فهؤلاء وغيرهم الكثير هم من ساهموا وبقوة فى بناء الحضارة الإسلامية التى زرعت فى نفوس أبنائها أن اهتمامهم وعنايتهم بالآخرين «أى إنسانيتهم» هى ما يجعلهم يستحقون لقب «إنسان».. وانطلقوا من قول الله: «الرحمن الرحيم» رحمة وهداية وإسعادًا لك؛ لأنك إنسان.