اهتمت الشريعة الإسلامية برعاية شؤون المرأة، أمًّا وأختًا وبنتًا وزوجة، واعتنت بها حضرًا وسفرًا، ومن مظاهر هذه العناية ما قرره كثير من الفقهاء ألا تسافر المرأة وحدها سفرًا طويلًا، بل يجب أن تكون فى صحبة زوجها أو ذى مَحرَم لها، وذلك لقول النبى، صلى الله عليه وسلم: «لا يَحِل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة إلا مع ذى مَحرَم».
ومع وضوح هذا الحكم، إلا أن نظرة فاحصة باحثة عن العلة والحكمة التى من أجلها اشتُرط الزوج أو المحرم فى سفر المرأة، تبين أن اشتراط الزوج أو المحرم إنما هو للمحافظة على المرأة وصيانتها من المخاطر المتوقعة فى السفر عبر الصحراء قديمًا، فمتى ما حصل المعنى فقد تحقق الحكم الشرعى وتحصل مقصود الشارع، ولذا أجاز الفقهاء أن تسافر المرأة مع رفقة مأمونة لا يُخشى على المرأة بأس إن هى سافرت معها.
وبنظرة متأنية إلى طبيعة الأسفار قديمًا وحديثًا، نلاحظ أن هناك تباينًا واضحًا بين وسائل السفر البدائية البطيئة التى كانت تنحصر قديمًا فى الحيوانات الحاملة كالجمال والخيل والبغال والحمير، وربما بعض السفن البسيطة، مع وعورة الطرق ووحشتها وافتقارها لمقومات الحياة من ماء وطعام، إلا ما يحمله المسافر معه على راحلته، ناهيك بحرارة الصيف القائظ وبرودة الشتاء القارس فى أسفار قد تستغرق أيامًا وربما أسابيع وشهورًا عبر دروب مظلمة موحشة فى أعماق الصحراء. وسفر كهذا يصعب على كثير من الرجال فضلًا عن النساء، ولذا كان اشتراط الزوج أو المحرم معقولًا، بل يقضى العقل بضرورته ليكون سفر المرأة آمنًا، لما هو معلوم من ضعف المرأة وكونها مطمعًا لضعاف النفوس من الرجال الذين قد يصادفونها فى طريق سفرها.
أما السفر فى زماننا، فهو يختلف كثيرًا عن السفر قديمًا، فغالب الطرق ممهدة، واتجاهاتها محددة، والوسائل المتاحة للسفر تقطع خلال ساعات معدودة ما كان يُقطع فى أيام، ولا تُعدم مئونة الماء أو الطعام، حتى إن المسافر قد لا يحتاجها خلال ساعات سفره، وإن احتاجها وجدها تباع على جنبات الطريق، بالإضافة إلى توافر الأمن والأمان بعمران غالب، إن لم يكن كل، طرق السفر البرى، وتقدم وسائل النقل البحرى، ناهيك بالجوى، وأصبحت حوادث قطع الطريق التى كانت تحدث قديمًا من الأمور النادرة بل الشاذة فى زماننا، والنادر أو الشاذ لا يقاس عليه ولا حكم له.
وعليه، فإن حال السفر فى زماننا اختلف كثيرًا عن حال السفر فى الزمن الذى قيل فيه الحديث المذكور سابقًا، وغيره من الأحاديث الشريفة التى استدل بها الفقهاء قديمًا على اشتراط وجود الزوج أو ذى مَحرَم مع المرأة فى السفر، وما أُلحق بهما من الرفقة المأمونة، وهو ما يجعل طرح بعض التساؤلات فى هذا الزمان معقولًا، ومن هذه التساؤلات: هل اشتراط الزوج أو المحرم فى سفر المرأة تعبدى لا علاقة له بحصول الأمن من عدمه، أو أنه لعلة خوف الطريق التى يسهل استنتاجها بأدنى نظر فى الأحاديث النبوية المستدل بها؟ وهل اشتراط المدة المذكورة، المقدرة بيوم وليلة فى الرواية المذكورة، وبآجال أخرى فى روايات غيرها، يؤثر فيه تغير وسائل السفر التى جعلت ما كان يُقطع فى يوم وليلة قديمًا يُقطع فى ساعة حديثًا؟
فإذا كان الحكم تعبديًّا غير مرتبط بعلة، يكون سفر المرأة فى عصرنا كسفرها فى زمن أسلافنا، ولا يغير اختلاف حال السفر ووسائله من الأمر شيئًا، فيبقى عندئذ اشتراط الزوج أو المحرم أو الرفقة المأمونة لازمًا فى كل سفر للمرأة، وهذا هو اتجاه غالب فقهاء المذاهب. أما إذا كان اشتراط الزوج أو المحرم أو الرفقة المأمونة لعلة خوف الطريق، فينبغى معاودة النظر فى ذلك إذا لم يكن هناك خوف من أى نوع على المرأة فى سفرها، ما عدا المخاطر التى لا يمكن الاحتياط منها حتى مع وجود المحرم كحوادث الطرق مثلًا؛ حيث لا يكون اشتراط الزوج أو المحرم ضروريًّا فى الأسفار الآمنة تمامًا، ويبقى مشروطًا فى كل سفر فُقِدَ فيه الأمن ولو بشكل جزئى لبقاء العلة، وقد اتجه هذا الاتجاه بعض فقهاء الشافعية، وهو مروى عن الحسن البصرى وداود الظاهرى، فأجازوا سفر المرأة وحدها متى أمنت الطريق، فمن المعلوم لدى دارسى الأصول أن الحكم المرتبط بعلة يدور معها وجودًا وعدمًا.
وما تطمئن إليه النفس، بعد النظر فى الأدلة ودراسة واقع الناس فى هذا الزمان، أن يكون اشتراط الزوج أو المحرم أو الرفقة المأمونة مرتبطا باختلال أمن الطريق، ومما يقوى ذلك ما رواه الإمام البخارى عن عدى بن حاتم قال: بينا أنا عند النبى، صلى الله عليه وسلم، إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل، فقال: «يا عدى، هل رأيت الحيرة؟». قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: «فإن طالت بك حياة لَتَرَيَنَّ الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله». قلت فيما بينى وبين نفسى: فأين دُعَّار طَيِّئ الذين قد سعَّروا البلاد؟! ففى هذا الحديث يسأل السائل الثانى عن قطع الطريق، ومع أنه إخبار بحصول الأمن الذى يتيح للظعينة أن ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله، إلا أن أكثر الفقهاء لم يأخذوا منه جواز السفر من دون محرم، لأن الإخبار بالوقوع لا يدل على إباحة أو تحريم، لكنه فى الوقت نفسه ليس فيه ما يمنع إفادته جواز سفر المرأة من دون محرم فى السفر الآمن، حيث إنه يبشر بما يمن الله به على المسلمين من أمن السفر فى زماننا، وقد جرت العادة على عدم الاستدلال بأمر محرم على النعم والبشارة بها، فدل هذا على إمكانية الاستدلال بالحديث على عدم اشتراط المحرم فى حال أمن الطريق وانتفاء الخوف.
ومما يقوى عدم اشتراط الزوج أو المحرم فى السفر الآمن أيضًا، أن الواقع العملى المعاصر يجعل بعض صور السفر يصعب معها اشتراط المحرم، فمن المعلوم أن المرأة أصبحت قائدًا للطائرات المدنية بل الحربية كذلك، ومع أن العادة جارية على وجود آخرين فى قمرة القيادة كمساعد الطيار على الأقل، لكن لو افتُرض أن قائدة الطائرة اقتضت الظروف أن تقلع بطائرتها منفردة إلى دولة بعيدة أو قريبة، فهل يكون من المعقول عندئذ اشتراط زوج أو محرم أو رفقة مأمونة معها؟! وهل وجود هؤلاء أو بعضهم يدفع خوفًا أو يحقق لقائدة طائرة حربية أو مدنية حماية من مخاطر متوقعة؟! وهل سفر محامية أو مهندسة أو أستاذة جامعية لدواعى العمل المتكرر من القاهرة إلى الإسكندرية أو حتى أسوان بسيارتها الخاصة على الطريق الزراعى الآهل بالسكان ونقاط الشرطة، يحتاج إلى زوج أو مَحرم أو رفقة مأمونة؟! وهل يمكن ضمان وجود أحد هؤلاء فى كل سفر للمرأة؟!
ومع أنى أطمئن إلى عدم اشتراط الزوج أو المحرم فى كل سفر يخلو من مخاطر محتملة، لكن لا ينبغى التوسع فى ذلك، فوجود المحرم أو الزوج خاصةً مع المرأة، وإن لم تكن فى حال خوف، يوفر لها صيانة واستغناء عن الأجانب إذا احتاجت إلى مَن يساعدها فى بعض شأنها، ولا شك أن قيام الزوج أو المحرم على شأنها ليس كقيام غيرهما به.