قال: بدأت حديثك عن الرحمة المستمدة من الله – تبارك اسمه – التى لا تعرِفها إلا القلوب التى تعرِفه. أجبته: نعم، فمصدر الرحمة التى تملأ حياة البشر هو الله وحده؛ لأنه "الرحوم" الذى قدم إلى البشرية باب الرحمة ليدخلو منه وينالوا من رحمته، ثم ليقدموا للآخرين من فيض نعمته هذه عليهم. أتذكر قصة إنسان قام بتصميم نموذج لباب من ذهب أطلق عليه اسم "باب الرحمة"، ثم وضعه فى أحد المعارض؛ فقدِم إليه الجمهور ليشاهد عمله ويناقش فكرته؛ وكان من بين جمهور المشاهدين أحد النجارين المهرة المتخصص فى صنع الأبواب.
ما إن رأى النجار الباب، حتى بادر الفنان: "أعتقد أن الباب عريض جدًّا، ونحن لا نصنع الأبواب بهذه المقاييس". أجابه الرجل: "أعلم ذلك. ولكن "باب الرحمة" ليس مثل باقى الأبواب التى تُصنع، بل هو عريض كى يتسع لجميع القادمين إليه ومن يرغب دخوله". ابتسم النجار وقال فى سخرية: "إنه ليس الخطأ الوحيد فى تصميمك؛ فبابك أيضًا منخفض جدًّا حتى إنه لا يتيح للإنسان العادى أن يعبر منه إلى الداخل". قال الرجل: "بكل تأكيد أنت محق؛ فباب الرحمة لا يمْكن أى إنسان أن يدخله: إنه صُمم لأجل أولئك المتواضعين الذين يمكنهم أن ينحنوا كلٌّ فى تواضع بلا أدنى ترفع أو كبرياء.". صمت النجار قليلاً وبادر صانع الباب: "لماذا لم تصنع له مِفتاحًا كى يُفتح ويُغلق مثل جميع الأبواب؟!". قال له: "إن باب الرحمة لا يحتاج أن يُغلق، بل هو دائمًا مفتوح أمام كل إنسان يرغب فى دخوله.". قال النجار فى دهشة: "وإن لم يكُن محتاجًا إلى مِفتاح، فلماذا إذًا جميع هذه المزاليج والأقفال التى وضعتها من الداخل؟!". أجابه: "لأنه سوف يأتى يوم يُغلق فى وجه الرافضين الرحمة: عند انتهاء العمر.".
تساءل: وكيف تكون الرحمة؟! أجبته: تتعدد مظاهر الرحمة فى حياة البشر: فالرحمة فى العطاء، والرحمة بالكلمات، والرحمة من المسامحة والغفران، والرحمة بتقدير أحوال الآخرين ومشاعرهم، والرحمة بالضعفاء.
دعنا نتحدث عن العطاء. الإنسان الذى يقدم هو قلب ممتلئ بالرحمة يضع قيمة الإنسان أولاً قبل أى شيء. وكما ذكرنا من قبل: العطاء لا يقيَّم بما يُمنح من ماديات فحسب، بل هو أوسع وأعمق: فحينما يترفق قلبك بمن لا يعرِف الطريق وتقدم له المشورة الحسنة فأنت تُعطي، وحين يحتاج إليك إنسان وتمنحه بعضًا من وقتك واهتمامك فأنت تقدم شيئًا عظيمًا. لا شك أن هناك من يقدم وهو يشعر أنهم مرغم على ذٰلك - ربما مجاملةً أو اضطرارًا أو تباهيًا، لٰكن العطاء الحقيقى يكون مجذوبًا من مشاعر الرحمة التى تملأ قلب صاحبه وتحُثه على أن يقدم للآخرين، غير منتظر أن يُطلب منه إذ هو شاعر بحاجاتهم؛ يقول مثلث الرحمات "البابا شنوده الثالث": "والعطاء المثاليّ، ليس هو فيمن يطلب منك فتُعطيه، بل بالأكثر هو الإحساس باحتياج أولٰئك المحتاجين، وإعطاؤهم دون أن يطلبوا".