لا ينكر جاحد، أن للدبلوماسية الرئاسية فى عهد الرئيس السيسى، طابع متميز ومتفرد، لم يحدث أن انتهجته مؤسسة الرئاسة على مدى تاريخها. رغم ما قيل، فى بدايات عهده، السيسى، من بعض «المفكرين» المُبتلى بهم الوطن، أن الرجل بعيد عن الحقل السياسى، ولا خلفية سياسية تسانده، ويحتاج إلى ظهير سياسى يعالج هذا الوضع غير المطمئن!، إلى آخر هذا الكلام الساذج الذى ملأ الإعلام غمزاً ولمزاً!
والواقع أن المدقق فيما اتبعته مؤسسة الرئاسة، يدرك على الفور أن منهجاً حاكماً دقيقاً توزن به الأمور، وعلى هديه تأتى تحركات مؤسسة الرئاسة، فى الداخل والخارج على السواء.
وأستطيع أن أرصد بإيجاز عدداً من الملامح المميزة لما تتبعه مؤسسة الرئاسة من دبلوماسية، التزاماً بمجموعة من الثوابت لا تحيد عنها، لعل أهمها التركيز الشديد على «الأمن القومى» ومتطلبات حمايته، وبل وتنميته. فأقول:
• راجع قيادة دبلوماسية الرئاسة لملف سد النهضة، وهو ما أثار أقاويل «خبراء» جنحت كثيراً عن الفهم الدقيق لمدى اتساع رقعة الملف، وتعمقه وتشابكه مع ملفات أكبر كثيراً من محدودية النواحى الفنية. وهنا ظهرت المهارات الدبلوماسية للرئيس السيسى، وقدرته على الاحتواء، والرهان على إمكانية استعادة الثقل المصرى فى القارة السمراء، فى توقيت شديد الصعوبة.
• قدرة الرئيس السيسى على فتح محور جديد، مصر/ قبرص/ اليونان، يواجه به الأطماع التركية فى بسط نفوذها على منطقة شرق البحر المتوسط، وهو المحور الذى نشأ سريعاً، لكن على أسس متينة وراسخة، حتى أنه بات يشكل رافداً جديداً فى نهر الأمن القومى العربى، إذ أعلن قادته تمسكهم بالحقوق الفلسطينية المشروعة.
• وامتداداً للفقرة السابقة، أُشير إلى أن دبلوماسية الرئاسة المصرية، التزمت بالأمن القومى العربى، وفق ثوابت واضحة، على رأسها التأكيد على سيادة الدولة الوطنية، وحماية مكتسبات الشعوب العربية. فكان، على سبيل المثال، الموقف الثابت من حتمية وحدة التراب السورى، والتأكيد على حق الشعب السورى فى تحديد مساره السياسى، وترك الشأن السورى للسوريين يديرون بأنفسهم معركتهم مع بناء دولة وطنية ذات سيادة، دون تدخلات من قوى إقليمية لها أطماعها المعروفة فى المنطقة ككل، وليس فى سوريا فقط، مثل إيران وتركيا.
• من جهة أخرى، التزمت دبلوماسية الرئاسة المصرية، باستقلال القرار المصرى، كضمانة لأمننا القومى، رغم العديد من الظروف التى شكلت هواجس تحوم حول قدرة مصر على التمسك باستقلال قرارها، فكان أن تمكنت مصر من التمسك بثوابتها، رغم الكثير من التشابكات، فأكدت على موقفها الواضح من حدود مشاركتها فى استعادة الحكم الشرعى لليمن، وأكدت كذلك أن مصير الرئيس بشار الأسد فى يد الشعب السورى وحده، كما تعاملت مصر بذكاء شديد مع المحاولات التركية الرامية إلى إفساد العلاقات المصرية/ الخليجية، ولم تفلح محاولات شق وحدة الموقف المتين الذى انتهجه التحالف المصرى/ السعودى/الإماراتى/البحرينى/ الكويتى فى مواجهة الخنجر القطرى، رغم كثير من التقاطعات فى مواقف تلك الدول سواء فى سوريا أو اليمن أو طبيعة علاقاتها مع تركيا.
• وتبقى كلمة فى هذا الشأن أراها جديرة بالإشارة والإشادة فى آن واحد. إذ الشكر واجب للوعى السياسى الكبير الذى أبدته دول السعودية والإمارات والكويت والبحرين تجاه المسؤوليات التاريخية العميقة التى تحملها مصر، إذ أدركت هذه الدول أن احتياج مصر للمساعدة الاقتصادية منهم كأشقاء وشركاء فى الأمن القومى العربى، لا يعنى أبداً أن لمصر خياراً آخر غير استقلال قرارها السيادى، الأمر الذى ترك أثراً واضحاً لدى دبلوماسية الرئاسة المصرية اعترافاً بما بلغته العلاقات المصرية والسعودية والكويت والإمارات والبحرين، من رُقى يسمو بالفعل إلى آفاق الأمن القومى العربى.
وأستأذن القارئ العزيز فى استكمال رصد دبلوماسية الرئاسة المصرية فى عهد الرئيس السيسى، فى مقال قادم بإذن الله، ربما نخصصه لأداء دبلوماسية الرئاسة فى الداخل، وكيف أنها تتحرك فى اتجاهات شتى، وبقى الأمن القومى هدفاً أمام عينيها لا يغيب، ودونه جهد وطنى مخلص لا ينقطع، يجابه بشجاعة وكفاءة ما به من تحديات، ويكتشف ويُعظم ما يضمه من فرص.