عرفت اللواء أحمد عبد الحليم منذ منصف ثمانينات القرن الماضى، فى ندوات مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام أو مركز الدراسات السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، عسكريا فذا، من أحفاد العسكريين الأوائل الذين أتوا فى عصر محمد على لتأسيس الجيش المصرى، ارتوا بماء النيل، ورضع الوطنية المصرية، وكان رب سيف وقلم مثل محمود سامى البارودى، وجبت معه محافظات مصر من الإسكندرية وحتى أسوان، وحفظت منه طعم الفكر وعرفت أن اللون الكاكى هو لون الحرية، وأن دموع أمهات الشهداء طمى يخصب الأرض، وكحل تتكحل به عيون الوطن، اللواء أركان حرب أحمد عبدالحليم مساعد وزير الدفاع الأسبق، وأحد أبطال حرب أكتوبر الخالدة، والذى توفى صباح الاثنين، 5/11، بعد حياة طويلة حافلة قدم فيها للوطن كل ألوان البذل والعطاء على مستوى القوات المسلحة، حيث كان من أبطالها العظام أو على مستوى الفكر والإعلام، حيث شغل منصب مدير مركز الدراسات الاستراتيجية للقوات المسلحة، ومستشارا لمدير أكاديمية ناصر العسكرية العليا.. وكان رحمه الله من أوائل المحللين الاستراتيجيين الذى قدموا التحليل الصحيح للأحداث المختلفة ووضحوا حقائق المؤامرات التى تحاك ضد مصر، كما كان عضوا فى مجلس الشورى السابق لدورتين، كان فيهما نموذجا للنائب الذى يقوم بواجباته الدستورية والمشارك فى كل المناقشات بكل حماس سواء تحت القبة أو فى لجنة الدفاع والأمن القومى.
ومن خلال الندوات التى شاركته فيها ودونتها، تطل ذكراه التى استردها من ذاكرتى الآن:
«أفخر بأننى كنت عسكريا بالجيش المصرى، وعاصرت فترة أحداث مهمة فى تاريخ مصر، وكنت فى مكتب المشير عبد الحكيم عامر فى دمشق إبان الوحدة المصرية السورية من عام 1959: 1961، ثم فى اليمن 1962 : 1963، وكنت من ضمن القوات التى ذهبت للعراق لدعم عبد السلام عارف 1963 : 1964، وفى الفترة من 1975 :1979 كنت ملحق حرب لمصر فى الصومال، وفى عام 1976 نشبت حرب بين إثيوبيا والصومال، وجلست فى الصومال بأوامر من السادات الذى قال لى «لا تعود إلا بأوامر منى»، وعندما عدت إلى مصر تغير وزير الدفاع آنذاك من الجمسى إلى حسين على، وكان الوزيران عرضا علىّ عندما أعود إلى مصر أن أعمل بالمخابرات الحربية، وبالتالى عدت إلى العمل بالمخابرات الحربية، ثم فى 1980 عدت مرة أخرى على العمل بقيادة الجيش الثانى كقائد لواء، حتى تم اغتيال السادات، وتم تغيير القيادات كلها، نتيجة لذلك، وفى نهاية 1982 عملت بأكاديمية ناصر العسكرية».
كأنة يعيش بيننا الآن وفور إحداث «طائفية» سابقة قال:
«إن ما يفعله المسيحيون فى مصر الآن، من اعتصامات ومطالبات، هو نتاج مرحلة طويلة من التراكمات وليس نتاج اللحظة أو نتاج الثورة، إنها مرحلة طويلة من المطالب التى لم يكن يسمع لها أحد، وتواترات بعض المسيحيين فى مصر مؤخرا لنيل بعض المطالب يعلن عن مرحلة انتقالية ستتأكد منها وحدة الشعب بدماء الشهداء».
أتذكر كيف كان بطلنا رئيس عمليات اللواء 15 مدرع بالجيش الثانى الميدانى خلال حرب أكتوبر، وكيف قال: «كنت قريبا من اللواء فؤاد عزيز غالى وكان إذا حدثت غارة يجلس على حافة الخندق، وحينما أسأله: ألا تخاف؟ كان يرد: «يا أحمد لكل منا رصاصته لن تصيبه إلا فى وقتها».
حول حرب أكتوبر قال:
«هناك دروس مستفادة من التخطيط والتنفيذ للحرب، أولها الاهتمام بعلم المستقبليات للربط بين الماضى والحاضر للوصول إلى أهدافنا المستقبلية، ومن أهم الدروس المستفادة أيضًا التدرج فى بناء القوة وضرورة تنويع مصادر السلاح وبناء القوة الدفاعية وعنصر الردع ثم القوة الهجومية، بالإضافة إلى خداع العدو بتحريك القوات ثم سحبها قبل الدخول فى معركة حقيقية، ودراسة المناخ الإقليمى والدولى».
من ذكرياته قبل الحرب قال:
«كان هناك لقاء شهير يسمى «لقاء وصلة وادى الملاك» على طريق مصر- الإسماعيلية، حيث التقى الرئيس الراحل أنور السادات، قبل الحرب، قيادات الجيش الثانى الميدانى، ووقتها قبل هذا اللقاء كان الرئيس الأمريكى جمعه لقاء فى جنيف مع رئيس الاتحاد السوفيتى، ووقتها قال الرئيس الأمريكى إنه لابد من حدوث استرخاء عسكرى بمنطقة الشرق الأوسط، فقال السادات لنا- لأنه علم بذلك الحديث- إنه إذا قبلنا بذلك لا نستطيع تحرير الأرض وسنبقى محتلين طول الوقت، والاتحاد السوفيتى سيتوقف عن دعمنا بالسلاح.
وبالتالى ظل يتحدث وأجرى مقارنة قواتنا بالقوات الإسرائيلية، وقال لنا السادات إن كل ما يطلبه هو عبور القناة ووضع أرجلنا الناحية الثانية وترك الباقى سيحله سياسيًا، والحرب هى امتداد لسياسة وسائل أخرى، بمعنى تحل المشاكل فى جزء منها بالسياسة، وتتوقف السياسة ثم نستخدم القوة العسكرية لمرحلة معينة، ثم نعود مرة أخرى للسياسة، وهذا أدى إلى توقيع «كامب ديفيد»، وتم استخدام التحكيم الدولى فيما يتعلق بقضية طابا، والحمدلله عزيمة القوات المصرية تحدت المستحيل وقهرت الأعداء وكانت عبقرية المفاوضين وراء استعادة طابا».
لازلت أذكر ماذا قال قبيل الحرب على العراق بعد غزو صدام للكويت قال:
«إن الحرب ضد العراق أصبحت مؤكدة وكيف يمهد مجلس الأمن للولايات المتحدة افتعال الأزمات فى أى وقت لشن حربها ضد العراق، وإن عناصر السيناريو الأمريكى المنتظر تطبيقه مع العراق يشتمل على ممالأة الأكراد من ناحية وتأليب المعارضة الداخلية من ناحية أخرى خاصة فى الجيش بالتأكيد على حتمية الهزيمة للجيش العراقى فى هذه الحرب المزعومة، كذلك تنشيط العراقيين فى المنفى وقد ظهر هذا خلال مؤتمر المعارضة الأخير».
الآن يترجل الفارس فى صمت نحو السماء، كل تلك الحروب ولم يصاب، ولكن المرض استطاع أن يسكت صوت الفارس، وتبقى ضحكته الصافية، تطفو فوق شفتيه، وتبقى مصر قادرة بقواتها المسلحة العظيمة على العطاء الدائم، رحم الله الفارس وأسكنه فسيح جناته.