ثمة مقولة يرددها الكثيرون فى مجتمعنا ليصفوا بها ذلك «الجدع الشهم ابن الأصول»، إذ يقولون إن هذا الرجل «متربى على طبلية أبوه»، وكأن الأكل على هذه «الطبلية» قيمة فى حد ذاتها، تعلى من شأن من تلقاها، وتخسف بمن حرم منها إلى أسفل سافلين، إذ تبرز تلك المقولة كيف أصبحت «الطبلية» «قيمة وطنية» راسخة فى عمق وجداننا، من حق من جلس أمامها أن يفخر بما عاش من تجارب، وليس على من حرم منها إلا التوارى عن الأعين فى ساحات المفاخرة.
هنا لابد أن نعرف أن «الطبلية» بمرور الزمن وتبدل الأدوار أصبحت أكبر من معناها المادى، هى تلك الحالة التى يقترب فيها جميع من فى الأسرة إلى جميع من فى الأسرة، هى جسر بين «الكبير» و«الصغير»، وعليه تمر خبرات الحياة وفضائل العائلة، حول الطبلية يجلس الجميع وعلى رأسهم الأب، ينبه الأبناء إلى أهمية أن ينتظروا حتى يحضر الجميع ليبدأ الأكل، تتوالى الأطباق فى النزول إلى ساحة الطبلية المقدسة، فلا يمد أحد يده إلى طبق حتى تنتهى الأم من وضع جميع الأطباق، فى العادة تكون الطبلية أضيق بكثير من استيعاب الجميع، وهنا يتعلم الجميع كيفية التآلف لكى تسع الطبلية كل أفراد العائلة، يجلس كل واحد لا بالشكل الذى يريحه فحسب، وإنما بالشكل الذى يوفر له ولأخيه مساحة كافية، ترى العائلة وكأنها «بنيان مرصوص» لا مكان هنا ليدخل الشيطان بيننا، وقد ساوينا الأيادى وسددنا الفرج.
يقول لنا الأب، «قل بسم الله» قبل أن تأكل، فنتعلم أن نتحكم فى شهواتنا، يقول لنا الأب، «احمد الله بعد أن تشبع»، فنتعلم فضيلة «الرضا» على الطبلية يتعلم الجميع المحبة، يتبادل الجميع النقاش، يوزع الأب على أبنائه «المناب»، فيتعلم كل واحد كيف يرضى بما قسَمَه الأب دون اعتراض، فى الغالب، «لا ينوب المقسّم إلا مصمصة صوابعه»، فيرى الأبناء كيف يضحى الأب بملذاته ليشبع ملذات أبنائه، فنتعلم أن التضحية أول شروط المحبة، وعلى الطبلية يرتفع مبدأ الشفافية، فهذا هو كل الطعام، وعلينا أن نشبع به، ولهذا نتعلم أن الأكل ببطء أسرع وسيلة للشبع، إذ ينهانا الأب عن التكالب، يكفف من وباء الشره الكامن فينا قبل استفحاله، نتعلم آداب الطعام وآداب الحياة، وآداب الاستمتاع، نحترم الكبير ونعطف على الصغير، نرى الفرح فى أعين إخوتنا بما آتانا الله، فتصاب أرواحنا بالبهجة، نضحك، نمرح، نتشاجر، نشبع، فتغرف أرواحنا من «الونس العائلى»، ونعرف أن الأوطان كالعائلة، من يصونها «متربى على طبلية أبوه»، ويخونها من هو دون ذلك.
نشر هذا المقال فى الجمعة، 11 نوفمبر.