قد يسألنى سائل فى البداية قائلا : لماذا تكتب الآن عن مسلسل "جلسات نسائية" الذى أنتج وعرض عام 2011 لأول مرة، ثم عرض بعد ذلك عدة مرات، منها مرة واحدة على إحدى القنوات المصرية، أما آخر مرات عرضه فكانت قبل أسبوعين بإحدى المحطات اللبنانية، وهنا أجيب بأن المرات التي عرض فيها المسلسل على مدار 7 سنوات مضت ربما لم ألتفت أنا وغيري إلى بعض العناصر الفنية المبهرة في ثنايا المشاهد من ناحية، ومن ناحية أخرى وهى الأهم أنه استطاع فى ظل الأحداث الدرامتيكية المؤسفة التى تمر بها البلاد العربية أن يستعيد لنا بريق الدراما السورية في عز أوجها مستعرضة الشوارع والميادين الدمشقية العتيقة، رغم أن العمل تم تصويرها وعرضه متزامنا مع بداية الأحداث التي عصفت بأول مدينة مأهولة في التاريخ "دمشق" وباقي المدن والبلدات السورية.
"جلسات نسائية" مسلسل سوري درامي اجتماعى، يتحدث عن العلاقات الإنسانية وعلاقات الحب التي تجمع بين الرجل والمرأة، والتي يتحكم بسيرها الرجل، كما يتحدث المسلسل أيضاً عن الطلاق والعنوسة والخيانة ومشاكل المرأة بشكل عام في المجتمع العربي، منطلقاً من قصص أربع نساء من الطبقة الوسطى، هن ثلاث أخوات، "هالا" التي تجسد شخصيتها "نسرين طافش"، و"عايدة" التي تقوم بدورها الفنانة "يارا صبري"، و"سلمى" التي تلعب دورها "نازلي الرواس"، وصديقتهن "رويدا" والتي تؤدي دورها الفنانة الجزائرية "أمل بوشوشة"، لكل منهن قصتها الخاصة التي يتعرض لها العمل عن نص الكاتبة السورية "أمل حنا"، وإخراج المخرج السوري "المثنى صبح"، واللذين يرصدان علاقات النساء الأربعة بأنفسهن ومجتمعهن والرجل على وجه التحديد، وهو في نفس الوقت يسلط الضوء كدراما اجتماعية معاصرة على مجموعة من مشكلات النساء وصراعاتهن مع المجتمع وقضاياهن الحساسة وبحثهن عن الحب والسعادة والاستقرار.
العمل يظهر المرأة وهي تحاول دائماً إخفاء ضعفها، وإيهام الذين حولها أنها قوية حتى لو كانت في أكثر حالاتها ضعفاً، ويتعرض لتفاصيل المشاعر الإنسانية، وربما لا تأتي الأحداث سريعة في المسلسل، بل يركز المخرج "المثنى صبح" على إخراج المشهد بتفاصيل دقيقة، خاصة مع نغمات الموسيقى التصويرية التي وضعها الموسيقي الأردني "طارق الناصر"، والتي تصبغ المشهد بصبغة رومانسية تكمل رومانسية الصورة نفسها، بحيث يبحث "جلسات نسائية" عبر شخصياته عن أسباب الفشل والنجاح في علاقة المرأة والرجل، ويعرض وبشكل بسيط اختلاف نظرتهما الى الأمور وإلى بعضهما بعضا، وهو الجدل القائم من الأزل بينهما.
وتبحث شخصيات المسلسل عن التفسير لبعض أسباب الفشل والنجاح في بناء العلاقة بين المرأة والرجل، وتحار هذه الشخصيات في إيجاد تعريفات واضحة لمفاهيم كبيرة تقع على طرفي نقيض مثل الأنانية والتضحية؟ ثم تسأل من خلال الأحداث عما تعنيه الحاجة للآخر والفشل في الحفاظ عليه، ويبين المسلسل للوهلة الأولى أن الرجل هو من يتحكم بسير العلاقات، إلا أنه يؤكد أن المرأة هي الأخرى صاحبة قرار، وهى الكتف الذي يتوارى خلفه الرجل ويتكئ عليه؛ فهي الأكثر استيعاباً لأنانية الرجل.
من ناحية أخرى يؤكد المسلسل ديمقراطية العيش والمفاهيم، ويسهم في بلورة القيم الحداثية والحريات الفردية والخصوصيات، ولعل أجمل ما في مسلسل "جلسات نسائية" هو تسليطه الضوء على التعايش الديني بين السوريين، من خلال العلاقة التي يطرحها بين شخصية "أم عزيز" المسيحية، وجارتها المسلمة "أم هاني"، إنه حقا يرسم ملامح لوحة الفسيفساء الجميلة في سوريا التي تتعدد فيها الطوائف والأديان؛ حيث كان يتعايش الناس مع بعضهم دون أي تفكير طائفي"، قبل أن يتفرقون في غياهب الغربة والتشرد، بعد أن اجتمعت عليهم شياطين الأنس والجن للنيل من بوابة العرب الشرقية، وكأنهم يخرجون لـ "صلاح الدين الأيوبي" أسلنتهم معلنين تفوقهم عليه وهو راقد في التراب الآن.
أكثر ما لفت نظري الآن للكتابة عن "جلسات نسائية" أنه لا يحمل في أحداثه انعطافات كبرى بقدر ما يزخر بالمشاعر الكبيرة، التي يبدو الناس أحوج ما يكونون إليها في هذا الوقت بالذات، خاصة إخواننا السوريين، فهو مسلسل من شأنه ملئ الفراغ الإنساني لدينا، وذلك ضمن عجلة الحياة السريعة، وما يدور حولنا من أحداث، فعلى الصعيد الإخراج استطاع المخرج "المثنى صبح" أن يلامس جماليات فنية عدة في العمل، معتمداً على إظهار بعض اللوحات التجريدية للفنان العالمي "صفوان داحول" والتي تعبر عن المناخ النفسي الذي يسود المشهد، حيث يدخل المتأمل للوحات في حالة قريبة من الصوفية ليستغرق في جمالية مشهد اللوحة، لينتقل بهدوء من أجواء واقعية "داحول" السحرية على خلفية موسيقى تدرجات الأبيض والأسود، إلى التفاصيل والعلاقة المتداخلة بين التكوين والمساحة من جهة، وبين الحالة الوجدانية المطلة من عنصر المرأة الحاضر في لوحاته، ليتابع تعبير العين المنكسر تارة والشاهد تارة أخرى إلى حركة أصابع اليد وانحناءة الرأس أو تكور الجسد من جهة أخرى.
فضلا عن ماسبق فقد تعمد "المثنى صبح" البذخ البصري في ديكور منازل شخوص المسلسل، فتكاد تكون المرة الأولى في الأعمال السورية التي تتساوى فيها جمالية الصورة بجمالية النص، إذ بدا الاهتمام بما كان يُعد تفاصيل في أعمال أخرى فظهرت ديكورات المنازل قمة في الروعة، بل أيضا ماكياج الممثلات كان مختلفا باتقانه فبدت نسرين طافش وأمل بوشوشة ويارا صبري ونازلي الرواس ملكات متربعات على الشاشة يتنافسن في المظهر، كما في الأداء الذي لم يقل وهجه أبدا مع الاهتمام الطاغي بالصورة الذي أراده المخرج، كما يبدو تقليدا لظاهرة المسلسلات التركية التي أولت الاهتمام بالمظهر كما الجوهر وما الرحلات السياحية التي درجت مع ظاهرة بداية عرض المسلسلات التركية لرؤية البيوت والمناطق إلا تأكيد لذلك، وحتى مشاهد المسنتين "انطوانيت نجيب وفاتن شاهين" بدت فيها روح المسلسلات التركية أيضا.
نأتي للأداء الناعم بأسلوب السهل الممتنع للنجمة "نسرين طافش" التي تألقت في دور الأرملة الصغيرة، تلك الحائرة بين مشاعر الحب والعاطفة الجياشة لعندنان "باسم ياخور" وبين ابنتها منى"هيا مرعشلي"، فهي هنا تعي جيدا أن وظيفة الدراما تكمن في تسليط الضوء على واقع المجتمع بايجابياته وسلبياته مؤكدة على ضرورة أن تكون الدراما معالجة بطريقة صحيحة لكي تدخل إلى قلوب الناس، ويكون تأثيرها إيجابيا، وكيف يمكن أن تكون مقنعة ومقبولة، متلائمة مع نفسها ومع دورها من حيث الشكل والمضمون، وبمنطق لا يقبل الشك ، لذا تحتم عليها أن تعيش الواقع الحي أمام الكاميرا لا أن تمثله ، هذه الحتمية ألزمتها بالضرورة أن تكون حية ، حيوية ، تتنفس الحياة بصدق كما ظهرت من خلال شخصية "هالا" والتي أضفت عليها حضورا حيا ، ذو نظام يستند إلى القوانين الطبيعية في الحياة ، وذلك بفضل امتلاكها التلقائية المطلوبة التي تجعل من الصعوبة عادة ، وعادة سهلة تمتزج مع شروط التمثيل في المزاج ، الضبط ، العدالة ، الابتعاد عن الميكانيكية، وهنا يكمن الإبداع كما في مفهوم "ستانسلافسكي" : (أن تكون طبيعيا) ذا موهبة للوصول إلى شخصية الممثل الناجح الذي يمتلك الشروط التي حددها "ستانسلافسكي" والتي يعتبرها مهمة جدا في فن التمثيل، ومن ثم فهي أيضا تؤكد المقولة المأثورة عند القدماء والمحدثين: "الممثلين يولدون لا يصنعون".
وتبدو لي "نسرين" في هذا المسلسل بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنهم فصل وسائل التعبير لديهم عن أنفسهم خاصة في حالاتها الرومانسية العذبة والتي تتسم بالهدوء والسكينة التي تلازمها في حياتها العادية، فقد أبدعت باستخدام جسدها وصوتها وميزاتها النفسية والعقلية؛ أي أن إبداعها لا ينفصل عن شخصياتهم، إنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، غير أن التمثيل فن، وكما هو الحال في أي فن، فلا بد من توافر عناصر أساسية لدى الممثل، مثل المقدرة والدراسة والممارسة.
فعلى مستوى الجسم والصوت، يحتاج الممثلون إلى أجساد مرنة مطواعة معبرة، كما في حالة "رويدا" التي جسدتها "أمل بوشوشة" في ثاني عمل تمثيلي لها بعد مسلسلها الأول "ذاكرة الجسد" والذي حتم عليهم استخدام جسدها في سخونة تناسب أجواء الدور لعرض مواقف عديدة ومتنوعة، ويبدو أنها اكتسبت هذه الخبرات بدراسة مقررات في الحركة على المسرح والرقص والمبارزة بالسيف، أو باشتراكها في تمارين رياضية تتطلب الكثير من التنسيق والقدرة، إن الرقص والمبارزة بالسيف رياضتان مفيدتان لأنهما تزودان الجسم بالرشاقة والتحكم بالحركة، إن نفس متطلبات المرونة والتحكم والتعبير تنطبق على الصوت أيضًا، فيبدو أن "أمل" تدربت من قبل على طريقة التنفس بطريقة صحيحة وعلى التنويع في إيقاع الصوت والنبرة، كما أنها تعلمت التحدث بلهجات مختلفة، إن التدرب على الإلقاء والغناء والاسترخاء شيء مهم، غير أن معظم الممثلين يتدربون سنين عديدة لاكتساب القدرة على تطويع أصواتهم بشكل كبير يسمح لهم بالتحدث بصوت مرتفع أو منخفض أو بشكل حاد أو ناعم، بناء عليه، يجب على الممثلين المحترفين التدرب الدائم على تحسين قدراتهم الصوتية ومرونة أجسادهم طوال مدة ممارستهم لمهنة التمثيل، وهذا في ظني ما تفعله "أمل بوشوشة"، كما بدا ذلك واضحا في أعمال تلت "جلسات نسائية" مثل: "زمن البرغوث - تحت الأرض - الإخوة – العراب 1 و2 – سمرقند – أبو عمر المصري" حيث بدت لنا ممثلة من الوزن الثقيل على مستوى الأداء والحركة والصوت جميعا في تناغم غير مخل، بل كل ذلك يزيد من تألقالها على الشاشة من عام إلى عام.
الملاحظة والخيال كانت السماتين الرئيسيتين في أداء كل من "نسرين وأمل" عن غيرهما من فريق العمل، فإحدهما تبدو رومانسية حالمة وهادئة تشعر دوما بسلام داخلي، بينما الأخرى على النقيض تماما، تبدو ساخنة متفجرة بالأنوثة والحيوية والطاقة، ما يؤكد أنه على الممثلين أن يلمّوا بالعواطف والمواقف والدوافع الإنسانية حتى يتمكنوا من القيام بأدوارهم جيدًا، وأن يكونوا قادرين على التعبير عن هذه العناصر حتى يتم للمشاهدين فهمهم، إن الممثل الجيد بحسب رأي الخبراء: يبني في نفسه عادة ملاحظة الآخرين، وتذكر طريقة تصرفهم، ويتعلم الممثل كيف يستجيب أناس مختلفون لنفس العواطف (مثل السعادة والحزن والخوف) بطُرق مختلفة، ويمكن للممثلين تطوير ذاكرة عاطفية تمكنهم من استرجاع الموقف الذي أوجد عندهم رد فعل عاطفي مماثل لذلك الذي يودون تصويره، غير أن هذه طريقة تمثيل معقدة ولايجب استخدامها إلا بعد أن يطور الممثل فهمًا شاملاً وعميقًا لها، ويتعلم الممثلون فهم الآخرين بفهم ذواتهم وقدراتهم العاطفية قدر المستطاع، إنهم يصورون الآخرين باستعمال معلوماتهم عن أنفسهم وتطوير نوع من التحكم بالاستجابة بعواطفهم.
ملاحظة أخيرة : لقد أثرت التركيز على "نسرين وأمل" من بين فريق التمثيل لجلسات نسائية الذين أجادوا جميعا بالفعل، ليس لأنها الأكثر تألقا وإبداعا تمثيليا فحسب، بل لأنهما بتناقض شخصيتهما كانتا الصديقيتي الأقرب لبعضهما، لذا فقد وضعا أيدينا على الجرح السوري من جديد، واستطاعا أن يعيدا لنا بريق الدراما السورية من جديد وسط غيامات سحب الدخان الأسود، وفحيح نار الإرهاب البغيض، التي جعلت نجم حاضرة الدنيا "سوريا" يأفل بفعل شيطاني رجيم، عندما تكالبت جحافل الغرب والشرق في معركة عبثية على مسلخ الإنسانية التي ذهبت في غياهب الجب بلا رجعة في المستقبل القريب أو المنظور .. فتحية حب وسلام لسوريا الحبيبة وشعبها البطل الذي لابد له من عودة قادمة مهما طال الزمن.