و كالمعتاد نبدأ مقال اليوم عن مكارم الأخلاق بكلمات الصادق الأمين صاحب الخلق العظيم
( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق )
أما عن الفضيلة الأخلاقية التي يتناولها مقال اليوم " التواضع "
فهي غاية في الأهمية لما لها من تأثيرات إيجابية كثيرة على المجتمع في حال العمل بها و الرجوع إليها والانتباه لخطورة تجاهلها والبعد عنها .
التواضع لغةً
مأخوذ من (وضع)، التي تدل على الخفض للشيء وحطه،
يقال: وضعته بالأرض وضعا، ووضعت المرأة ولدها.
التواضع اصطلاحاً
في الاصطلاح هو: إظهار التنزل عن المرتبة لمن يراد تعظيمه.
فالتواضع صفة محمودة تدل على طهارة النفس وتدعو إلى المودة والمحبة و المساواة بين الناس ونشر الترابط ومحو الحسد والبغض والكراهية من قلوب الناس .
سئل ( الحسن البصري ) رحمه الله عن التواضع. فقال:
"التواضع أن تخرج من منزلك ولا تلقى مسلماً إلا رأيت له عليك فضلا"
(الإحياء: 3/34
▪ التواضع في اللباس والمشية .
عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسم قال : " بينما رجل يجرُّ إزاره من الخيلاء خُسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة " .
▪ التواضع في التعامل مع الزوجة وإعانتها .
عن الأسود قال : سألتُ عائشة ما كان النبي عليه الصلاة و السلام يصنع في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله تعني : خدمة أهله ، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة .
▪ التواضع مع الخدم والعبيد .
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه وليَ حرَّه وعلاجَ
و قد حث المولى عز وجل في كتابه الكريم على (التواضع) فقال تعالى :
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} آل عمران{159}
وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. الإسراء {37}
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً الفرقان {63}
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. المائدة {215}
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ لقمان {18}
*و بما أن الأديان السماوية جميعها تدعو إلى نفس القيم الأخلاقية و الفضائل والتعاليم ، فإليكم بعض الآيات التى تحث على التواضع بالكتاب المقدس (الإنجيل):
"ازدد تواضعا ما ازددت عظمة فتنال حظوة لدى الرب"
(سفر يسوع بن سبراخ 3: 20
"تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. "
(إنجيل متى 11: 29)
" تَسَرْبَلُوا بِالتَّوَاضُعِ، لأَنَّ: اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً".
(رسالة بطرس الرسول الأولى 5: 5؛ سفر الأمثال 3: 34؛ رسالة يعقوب 4:6
و بما أن مصر القديمة كانت منبع الأخلاق وفجر ضمير الإنسانية ،
فإليكم بعض تعاليم الحكيم (بتاح حتب) :
و هو الحكيم الذي ظهر مع الأسرة الخامسة ووزير الفرعون (ديد كارع)، وقد وضعت تعاليمه في بردية تعود لعصر الدولة الوسطي، ووضعت حكمته في البردية على أنها (كلمات الإله) وعددها ٣٧ حكمة شملت آداب التواضع والمحادثة والعدالة والحقيقة والوداعة والكرم والأمانة واحترام الواجب والسعادة وحق الأبناء والتقاليد والفوز بالزوجة الصالحة والنميمة وغيرها، وهذه بعض حكمه:
*يقول «بتاح حتب» في نصائحه لولده:
«لا تزهد بمعارفك، ولا تحسبن نفسك عالماً، ولكن اجعل الأمر شورى مع الجميع، خذ نصيحة الجاهل، كما تأخذ نصيحة العالم، لأن حدود العالم لا نهائية، وليس هناك من يبلغ الكمال في أحاديثه، والقول الحكيم أشد ندرة من الحجر الأخضر، ومع ذلك فقد تجده الإماء اللائي يجلسن إلى الرحى».
«إذا وجدت رجلاً يتكلم، وكان أكبر منك وأسدى حكمة، فأصغ إليه، وأحن ظهرك أمامه، ولا تغضب إلا إذا تفوه بالسوء، وعندئذ سيقول عنه الناس: تبا له من جاهل – إذا وجدت رجلاً مساوياً لك يتجادل، وأثار حديث السوء فلا تسكت، بل أظهر حكمتك وحسن أدبك، فإن الكل سيثنون عليك، وسيحسن ذكراك عند العظماء – إذا وجدت رجلاً فقيراً (ليس مساوياً لك) يتكلم فلا تحتقره لأنه أقل منك، بل دعه وشأنه، ولا تحرجه لتسر قلبك، ولا تصب عليه جام غضبك فإذا بدا لك أن تطيع أهواء قلبك فتظلمه، فاقهر أهواءك، لأن الظلم لا يتفق مع شيم الكرام».
*أما الحكيم والوزير(كاجمنى) فقد بدأ وصاياه بفضيلة التواضع إذ قال:
((الحذر يحالفه النجاح. ومن يتخذ الاستقامة أساسًا لعمله يمتدحه الناس. فكن حذرًا وفطنــًا فى الحديث. والسكين تكون مسنونة لمن يحيد عن الطريق المستقيم ، واعمل على ضبط النفس ولا تكن نهمًا، ولا تـُفاخر وتزهو بقوتك))
*قال الحكماء: (ثَلاثُ كَلماتٍ مُهْلِكَاتٍ: "أنا، ولي، وعندي".
*(أنا) قالها الشيطان متكبراً عندما أمره الله بالسجود لآدم كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ص: 76]، فَطُردَ مِنَ الجنّةِ ووَعَدَهُ اللهُ جَهَنّم مُسْتَقراً له،
*(لي) قالها فرعونُ طُغياناً، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51] فأغرقه الله في البحر وجَعَلَهُ لمن خَلْفَهُ آيةً وعبرةً،
*(عندي) قالها قارونُ زَعْماً منه أنّ ما يَمْلِكُهُ مِن كُنوزِ قد جمعها بِجُهْدِهِ لا بِرِزْقِ الله تعالى له، كما جاء في قوله تعالى: ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي ﴾ [القصص: 78] فَخَسَفَ اللهُ تعالى بهِ وبِدَارِهِ الأرضَ).
• قال أحد الشعراء :
مَلْأَى السّنابلِ تَنْحَنِي بِتَواضُعٍ ♦♦♦ والفَارِغَاتُ رُؤُوسُهُنَّ شَوَامِخُ
• وقال رجلٌ لحكيم: علمني التواضع.. فقال الحكيم:
(إذا رأيتَ مَن هُو أكبرُ مِنكَ، فقل: سَبَقَني إلى الأعمالِ الصالحةِ، فهو خَيرٌ منّي.. وإذا رأيتَ مَن هُو أَصْغَرُ مِنْكَ فقل: سبقتهُ إلى الذّنُوبِ والعَملِ السَّيءِ فأنا شَرٌّ مِنْهُ).
• قال الإمام الغزالي :
(العُجْبُ يَدعُو إلى نسيان الذُّنوبِ وإهمالها، ويتولد منه الكِبْر، والمعْجَبُ يَغترُّ بنفسهِ وبرأيهِ، ويَأْمَن مَكْرَ الله وعذابَهُ، ويثني على نفسه ويُزَكِّيها، ويستنكفُ مِن الاستفادة والاستشارة، وسؤال مَن هو أعلم منه، ولا يسمع نُصْحَ نَاصِحٍ، ولا وَعْظَ وَاعِظٍ، ويُصِرُّ على خَطَئِهِ).
• قال الحسن البصري :
: (التواضعُ مع البخلِ والجهلِ، خيرٌ مِن التكبّرِ مع الكرمِ والعقلِ، فحسبك مِن حَسَنةٍ غَطَّت على سَيئتين، وسَيئةٍ غَطَّت على حَسَنتين).
• قال محمد بن الحسين بن علي
: (مَا دَخَلَ قَلْبَ امْرِئ شيءٌ مِنَ الكِبْرِ قَطُّ إلّا نَقَصَ مِن عَقْلِهِ بِقْدِرِ مَا دَخَلَ مِن ذَلِكَ قَلَّ أو كَثُرَ).
• قال الحكماء: (التَّكَبُرُ على المُتَكَبِّر صَدَقةٌ؛ لأنّه إذا تواضعتَ له تَمَادى في ضَلَالِهِ وإذا تَكَبّرتَ عَلَيهِ تَنَبَّهَ).
• و كيف لنا أعزائي ألا نتمسك بفضيلة التواضع التي هي من شيم العظماء و كبار النفس الذين كلما علا قدرهم ازداد تواضعهم و صغر كبرهم
و كيف لنا ألا نُعلم أولادنا ما تعلمناه من آبائنا و أمهاتنا من قيم و أخلاقيات كنا نتلقاها بجملٍ و أساليب بسيطة و ربما دون قصد في بعض الأحيان ،
إذ أنها كانت هي السائدة المعتادة التي يلتزم بها الجميع دون إلزام و من يشذ عنها يكون كمن يغرد خارج السرب فتنفر من صوته جميع الآذان .
فكنا نعرف بتلقائية أنه علينا إحترام الكبير و الإحسان إلي الوالدين و تبجيل المعلم و التواضع مع الصغير قبل الكبير
فلن أنسي يوماً علي سبيل المثال قول أمي رحمها الله الذي تردد علي مسامعي مرات عديدة أنه " من تواضع لله رفعه "
فهل لنا من عودة جادة لقيمنا الأصيلة ممتدة الجذور و أخلاقياتنا الحميدة التي توارت و كادت أن تندثر خلف أتربة التبجح و الوقاحة و فجاجة السلوك و تحول الفضائل و العادات و التقاليد إلي مجرد ذكريات جميلة في قوالب محفوظة يكترها البعض عندما يقتله الحنين إلي الزمن الطيب الذي لا ذكر له في قاموس أخلاقيات و مفردات الأجيال الجديدة .
و خير ختام لمقال اليوم عن فضيلة التواضع كلمات خير الأنام وصاحب الخلق العظيم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم :
* قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في خطبته:
(ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني، يومي هذا) ، وفيه:
(وإن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد). رواه مسلم.
* عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله). رواه مسلم.
*عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ترك اللباس تواضعاً لله، وهو يقدر عليه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي حلل الإيمان شاء يلبسها).
رواه أحمد في المسند والترمذي وحسنه الألباني.
*عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(يا عائشة لو شئت لسارت معي جبال الذهب، جاءني ملك إن حُجْزته لتساوي الكعبة، فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: إن شئت نبياً عبداً، وإن شئت نبياً ملكاً. فنظرت إلى جبريل عليه السلام. فأشار إليّ أن ضع نفسك، فقلت: نبياً عبداً) رواه البغوي .
*قَالَ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "مَنْ تَوَاضَعَ للهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّيْنَ، وَمَنْ تكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً وَضَعَهُ اللهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِيْنَ" رَوَاهُ أَحْمَدُ.
و إلي لقاء مع فضيلة أخلاقية جديدة من مكارم الأخلاق