امتنع السفير عمر أبو العطا مندوب مصر فى الأمم المتحدة عن التصويت على مشروع القرار المقدم من سامنثا باور سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الأمم المتحدة باستبدال جنود الدولة التى لا تعاقب جنودها من قوات مبعوثى حفظ السلام بجنود دولة أخرى حال اتهامهم بالقيام بأى انتهاكات جنسية، فكانت مصر هى الدولة الوحيدة بين خمس عشرة دولة التى امتنعت عن التصويت، وعلى ذلك لم تنتفض مصر لهذا الموقف الذى بدا غير مفهوم وغريب، وبدا تعنتاً وعناداً منا بعد موافقة الجميع عليه لأنه لم يغير من الأمر شيئاً غير الإساءة لمظهرنا فى الخارج إذ بدا وكأننا دولة داعمة للمتحرشين، أو غير قادرة على منع قواتها أو محاسبتهم، بل وانبرينا نبرر لهذا الموقف؛ علماً بأن هذا قرار منصف تأخر كثيراً قصِد به حماية الأعراض، وكلنا يعلم أن الدول التى تزرع فيها هذه القوات فى الأغلب دول عربية والأعراض التى تنتهك أيضاً أعراض عربية وكان الأولى بنا أن نبادر نحن بهذا الاقتراح!!!
عاودنى كم لا حصر له من التساؤلات والمقارنات التى عقدت نفسها عقب مشاهدتى لرواية أمريكية بين الفرق فى مسار تفكير العالم ومسار تفكير المجتمع العربى المسلم، دعونى أنقل لكم ما اختزن فى نفسى من ألم علَّ كلامى يحدث يوماً ما تغييراً فى المفاهيم الإنسانية لدى المجتمع العربى المسلم.
ملخص الرواية "تحرير ديدچينجو" أن عبدا مملوكاً أحبه سيده الطيب فأعتقه، يقوم ديدچينجو بعد عتقه بالانتقام للعبيد ممن يعذبونهم وينتهى الفيلم؛ بعد استعراض ألوان العذاب اللا إنسانى الذى يتعرض له أصدقاؤه العبيد من سخرة وتجويع وإذلال واغتصاب وجلد وقتل وكل الإهانات البدنية والنفسية؛ بإدانة السادة وتحرير العبيد .
لم يسمح المؤلف والمخرج الأميريكيان أن يرجعا إلى ما قبل ٢٢ سبتمبر عام ١٨٦٢؛ قبل أن يضع إبراهام لينكولن نهاية العبودية فى أمريكا؛ من أن يقدما هذا الفيلم ليؤرخا لخطايا أجدادهم ويعتذرا عنها فى دلالةٍ على أن الغرب يشعر بالذنب ويحاول جاهداً التكفير عنه معترفاً بما اقترف، فى فلسفة تنتمى لا سيما إلى فلسفة الاعتراف المسيحية كشرط للتكفير عن ذنب لا يزال يشعر به جيل لم ير العبيد بعد قرن ونصف قرن من الزمان بالنيابة عن أجداده!! شعوب لا تخجل من أن تعترف بالخطأ وتخجل ألا تعترف به كى تقطع على نفسها ومن بعدها عهداً ألا يعودوا !!
أما نحن العرب المسلمون فلسنا نكتفى بأننا لم نكن أول من دعا لتحرير العبيد بل ومن أواخر من منع تلك التجارة المشينة المهينة، ولا نشعر بالخزى لمثل هذا التاريخ ولم نعتذر عنه بل ونبرر له ومنا من يعتز به ويمجد هذا التاريخ ويفتخر به ولا يزال يحلم بعودته بل ولاتزال هذه الممارسات بالفعل موجودة تقوم بها داعش وبوكو حرام وتنتشر تلك التجارة فى نيچيريا وموريتانيا !
ليس عندى أدنى شك أن الذى أوصانا بالحيوان فى قصة باغية بنى إسرائيل التى دخلت الجنة فى كلب عطشان سقته والمرأة الحميرية التى دخلت النار فى هرة حبستها حتى ماتت جوعا فلا هى أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض، وأن الذى وصانا أن نحسن الذبح، ليس عندى أدنى شك أن الله الذى أرسل نبيه بالرحمة للعالمين الله الذى كرم بنى آدم لم يرد رقا على وجه الأرض، ولا يريد ظلماً ولا استقواءً واستضعافاً هو يعلم أن تحريرهم آت لا محال بما فرض، وأنها فقط مسألة وقت بعد أن أوحى لنا بما علينا أن نفعل كما وضعنا على أول الطريق، ولكنَّا نحن لم نفعل، الذى جعل أولى الكفارات "تحرير رقبة"، وجعل الأمة التى تلد تصبح "حرة" فى زمن لا يوجد فيه موانع للحمل، فحين وضعت مارية القبطية إبراهيم قال الرسول (ص) "أعتقها ولدها" ما جعل الصحابة يتسابقون فى شراء العبيد وعتقهم إرضاء لله ورسوله.
لا أفهم أن بعد كل هذا الحث من الله ورسوله تستمر العبودية عند المسلمين وتستمر حتى يأتى منعها من الغرب؟؟ ولا أفهم أن تجارة هى فى الأساس حرام لأنها مبنية على الاختطاف والسبى يحل نتاجها؟؟ وما الحال الآن والشعوب العربية مهجرة وبلادهم مستباحة من كل جيوش العالم أيجوز أن تسبى نساؤهم على أساس أنهن غنيمة حرب!! العرب الذين يتغنون قائلين "من ذا يسائل سيدا فى عبده" متفاخرين هل يقبلون أن يصبحوا فى موقف العبيد ونسائهم السبايا وغيرهم الأسياد لا يُسألون عما يفعلون؟ أبدا لن تكون اللاإنسانية مصدر فخر! أنه فخر الخزى والعار إن كان أجدادنا كذلك يفعلون! هللا استحينا واعتذرنا! هل هناك شك أن هذا مشين ومقزز؟ أن يستعبد الإنسان إنسانا فيمتلكه ويجعله فى مرتبة الأشياء والحيوان لا يملك من أمر نفسه شيئا! أن تسلب الأمة حقها فى أن تقبل أو لا تقبل أن يستحلها سيدها! أن تلد عبيدا وتورث هى وأولادها كالأنعام والإبل والمتاع، وكأنما كتبت عليهم وعلى ذريتهم العبودية جيلا بعد جيل! ويُسْتَحَلُ أن يُخْصَى عبد فلا هو فى النساء ولا الرجال معدود منتهى الإهانة البدنية والنفسية لبنى آدم الذى كرمه الله! وكأن ما قال الفاروق عمر "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" لم يكن!! أما آن الأوان أن نعتذر عن هذه الممارسات، كما اعتذر عنها الغرب أم نظل نعتز بها وكأنها الأمجاد والشرف حتى اقتنع مرضى النفوس بمشروعية تلك الممارسات، وظنوا أن يعود بها الزمان بعد أن لفظها كل ذى قلب وعقل وضمير؟ إلى متى نظل فى واد والعالم كله فى واد آخر من الرقى الإنسانى والتحضر !
العالم كله يعتذر ونحن ندافع ونجتر ونجذر بذور التخلف !!
تظاهروا إن لم تستطيعوا أن تكونوا !!
فى النهاية يحق أن أسجل أن أول من دعا لإلغاء الرق فى العالم الدنمارك حيث قامت فى عام ١٧٩٢ بإلغاء تجارة الرق ثم تبعتها بريطانيا ثم فرنسا ثم سائر الدول الأوروبية بعد مؤتمر ڤينا ١٨١٤، و فى عام ١٩٠٦ عقدت عصبة الأمم مؤتمر العبودية الدولى الذى قرر منع تجارة العبيد وألغى العبودية بشتى أشكالها وتأكد ذلك بالإعلان العالمى لحقوق الإنسان وتأكدت باتفاقية چينيڤ ١٩٢٦، كانت المملكة العربية السعودية من أواخر الدول استجابة وألغت تجارة الرقيق وأعتقتهم فى عام ١٩٦٢ بعد مائة عام من إبراهام لنكولن! وموريتانيا هى آخر بلد تلغى الرق فى العالم عام ١٩٨١، لكن بكل أسف هذا حبر على ورق ولأنه لا تزال تجارة الرقيق بكل أنواعها موجودة حتى القرن الواحد والعشرين، وقد تطرقت الكثير من الأعمال الفنية؛ أشهرها سلسلة أفلام Taken ؛ لهذه الممارسات التى لم تنته من الدنيا لأن هنالك من يستحل البيع وهنالك من يستحل الشراء وهناك من لا يستحى ويتفاخر بمثل هذا التاريخ وهذا الموروث الثقافى!
لا أقول أن الغرب مثالى فمازالت جرائمه تجتاح العالم وإن اختلفت فى شكلها ومضمونها لكن وجود هذا لا يمنع من رفض الجرائم الكبرى التى ارتكبت ضد الإنسانية والتى لا يختلف عليها اثنان، ولا يمكن بحال للنفس السوية قبول استمرارها أو تبريرها ومن ثم أصبح الاعتذار عنها واجبا إنسانيا طال بنا الزمان أو قصر .
خلاصة القول إنه لولا قَوَّمَ الإنسان نفسه وقَيَّمَ أفعاله بالوقوف مع النفس ونقدها ومواجهتها ومصارحتها بدلا من الإصرار على الخطأ وتبريره وتوريثه للأجيال ما انصلح حال البشرية ولظلت الدنيا غابة، وعلينا أن نبادر بتطهير أنفسنا من بقايا أفكار لا إنسانية، ولا ننتظر حتى يفرض ذلك علينا، وسيكون وقتها قد فات الأوان وصنفنا العالم خارج سياق الإنسانية.
• استاذ بطب قصر العينى.