أصبح المجتمع الآن بحاجة ماسة إلى القيم الإنسانية أمام واقع تنامى فيه الإخلال بالقيم والعنف واشتعال حروب الدمار «الحسية والمعنوية»
إن من تمام نعم الله وكرمه أن كرم الإنسانية كلها وإن شئت فقل: الخلق كلهم برسول الإنسانية، صلى الله عليه وسلم، فكان رحمة بهم وهدى، ووسع بخلقه النّاس جميعا، فقد وسعهم رفقا وسهولة، ونضحت يداه بالعطايا كرما وجودا، أبرهم قلبا، وأصدقهم لهجة ولسانا.
يقول تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ «الأنبياء: 107».
ودعا النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى احترام الإنسان، بل أسس لمنهج يحترم الإنسان مهما كان الاختلاف، احتراما يلبى حاجات الإنسان الفطرية من حيث هو إنسان، كالعدل والإنصاف وبغض الظالم، ومجمل حقوق الإنسان، وغير ذلك من المبادئ التى تؤول فى العمق إلى ما فطر الله الناس عليهم.
فقد أعلن النبى، صلى الله عليه وسلم، منهج الإسلام فى التعامل مع القيم الإنسانية بكل وضوح قائلا: «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». رواه البيهقى فى السنن الكبرى، وجسد ذلك عمليا حين أيّدَ حلف الفضول، لما كان فيه من قيم العدل والإنصاف، حيث قال، «ما أحب أن أنكثه وأن لى حمر النعم». رواه البيهقى.
وهذه القيم الإنسانية أصبح المجتمع الآن بحاجة ماسة لها، أمام واقع تنامى فيه الإخلال بالقيم والعنف واشتعال حروب الدمار «الحسية والمعنوية».
فقد جاء النبى الكريم، صلى الله عليه وسلم، بالمصالح وحفظها، ووقايتها وتأمينها من أى اختلال، قال العز بن عبد السلام: «ومعظم مقاصد القرآن الأمرُ باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها». قواعد الأحكام.
وقال الشاطبى فى الموافقات «2/7»: «والحفظ لها يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود، والثانى: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم».
هذه المصالح لأجل الإنسان وكرامته، فلقد قرر الله سبحانه أن يصطفى بنى آدم من بين كثير من خلقه، ليرفعهم إلى مقام التكريم، فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70].
ونلحظ فى الآية قوله تعالى: ﴿كَرَّمْنَا﴾ تضعيف كرم، أى: جعلنا لهم شرفا وفضلا، كما يقول القرطبى، وهذا هو كرم نفى النقصان.
وقد ضرب النبى، صلى الله عليه وسلم، أروع الأمثلة فى تكريم الإنسان مهما كان معتقده ومذهبه، وذلك حين وقف وقفة إجلال واحترام وتكريم لجنازة يهودى، فلما قيل له فى ذلك، قال: «أليست نفسًا». رواه البخارى ومسلم.
كما انطلق النبى الكريم من هذا التكريم إلى نوع آخر فى التكريم يؤسس له ويؤكد على احترامه، ألا وهو تأمين هذه النفس، فقد اعتبر النبى الكريم حماية النفس مهما كان صاحبها مخالفا له فى العقيدة من مسؤولية المسلمين، فتوعد من أهدر هذه النفس، قائلًا: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا». البخارى، بل ويبالغ فى ذلك قائلا: « أيما رجل آمن رجلا على ذمته ثم قتله، فأنا من القاتل برىء وإن كان المقتول كافرا». رواه ابن حبان.
ومن تمام رحمته وإنسانيته بالمخالف أن أمّنه بأقوى صيغ الإيجاب، فقال: «من آذى ذميًّا فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة». كنز العمال.
ولذلك فقه علماؤنا كابن حزم وغيره من أن من كان فى ذمتنا وحمايتنا وقصده أى عدو فى بلادنا، وجب الخروج لقتالهم وحمايتهم حتى نموت دون ذلك، صونا لمن هو فى ذمة الله تعالى، وذمة رسوله الكريم. مراتب الإجماع «85».
بل قرر العلماء أن من «اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة فى عرض أحدهم أو نوع من أنواع الإذاية أو أعان على ذلك، فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمة الإسلام». الفروق «3/15».
وقد جاء النبى الكريم مؤسسًا لمجتمع يحترم حرية الآخرين، مبينا أن الناس أحرار فيما يؤمنون به: فقال تعالى: ﴿فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكْفُر﴾ الكهف «29»، ففى ظل هذا الدين العظيم «الإسلام» لا تلغى الديانات الأخرى، بل جاء الإسلام ونبيه تاركين للإنسان حرية اختياره دون الإكراه والإجبار، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ * قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ﴾. البقرة «256»، وقال: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. الكافرون «6»، وسواها من الآيات المقررة لهذه الحرية.
بل أكد النبى على ذلك فى وثيقته النبوية الدستورية على حماية المخالفين له قائلًا: «لا يفتن أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته، وَعَلَى مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ» الطبقات الكبرى لابن سعد.
وفى ميثاق المدينة كتب، صلى الله عليه وسلم: «لليهود دينهم وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم».
هذه هى شخصية النبى، صلى الله عليه وسلم، التى نحتفى بها فى شهر مولده، وقد جاء رحمة مهداة للناس جميعًا، فلنهتدِ ونقتدِ به فى خلقه وإنسانيته وإنصافه، وفى لطفه ورقته، وفى إخلاصه واتصاله بالله.
وأخيرًا أذكّر نفسى والقارئ بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾. الأحزاب «21».