المؤرخ وعالم الاجتماع الشهير «ابن خلدون» دشن مقولة محورية، مفادها «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والأفاقون والمتفقهون والانتهازيون، وتعم الشائعة، وتطول المناظرات، وتقصر البصيرة، ويتشوش الفكر».
ابن خلدون دشن مقولته منذ عشرات السنين، وعندما انهارت مصر عقب ثورة الخراب 25 يناير 2011، واستمر هذا الانهيار حتى 2014 ظهرت هذه الفئات وتغلغلت وانتشرت انتشار الأورام الخبيثة فى جسد المجتمع المصرى، وكانت نتائجه أننا ندفع ثمن مضاعفاته حتى الآن.
نحن بالفعل نعيش زمن المنجمين، وضاربى الودع، ومروجى الشائعات، والأكاذيب، وتجار الدين الذين يخرجون علينا فى عباءة المتفقهين، وهم أبعد ما يكونون عن الإلمام بالعلوم الشرعية، بجانب ظهور تنظيمات وجماعات تتحدث عن الإسلام بشكل حصرى، وتسخر الدين لخدمة أهدافها، وتشيع بين الناس أنها تملك مفاتيح أبواب الجنة والنار، فمن يتبعها وينفذ أوامرها على السمع والطاعة، يحصل على مفتاح أحد أبواب الجنة، أما الذين يعارضونها ويفندون مزاعمها، ويكشفون مخططاتهم، فهؤلاء مصيرهم القتل ذبحًا وتفجيرًا فى الدنيا، والدفع بهم فى نار جهنم فى الدار الآخرة.
السنوات الماضية، وتحديدًا منذ يوم 28 يناير 2011، وهو اليوم الذى يعرف اصطلاحًا بجمعة الغضب، وعاشت فيه مصر حالة من الرعب لم تشهد له مثيلًا طوال تاريخها، ومرورًا بأحداث محمد محمود ومجلس الوزراء ومحاولات اقتحام وزارتى الداخلية والدفاع، بجانب المسيرات والمظاهرات والاعتصامات وقطع الطرق، كل ذلك شكل بيئة خصبة لظهور المنجمين والأفاقين والمتفقهين والانتهازيين، وكتائب نشر اليأس، وتصدير الإحباط!!
وعندما خرج المصريون عن بكرة أبيهم فى 30 يونيو 2013، واستردوا وطنهم المخطوف، واكتمل تشكيل مؤسسات الدولة،وعادت قوة المؤسسات الأمنية فى نشر الأمن والأمان، وبسط الاستقرار، وخطت مصر خطوات واسعة، ومهمة فى البناء والتنمية، تشكلت كتائب نشر الشائعات، ضمت منجمين وأفاقين وأدعياء المعرفة، هدفها تشويه الإنجازات، واستغلال كل قرار إصلاحى جرىء، لتوظيفه فى إثارة الفتنة ونشر الشائعات لتأجيج الأوضاع فى الشارع.
كتائب الانتهازيين والأفاقين وتنظيمات اغتيال السمعة، والتشكيك فى كل شىء، نار خطيرة، تلتهم الأخضر واليابس، إذا ما تركنا لهم الفرصة للتوغل والانتشار فى المجتمع، وامتلاك الأدوات اللازمة التى تمكنهم من سرعة هذا الانتشار، مثل تقديمهم باعتبارهم شخصيات اعتبارية، تأتى باقتراحات وتقدم حلولًا لمشاكل، بطريقة اللعب بالثلاث ورقات، والسحر والشعوذة لخطف الأبصار، والتنويم المغناطيسى..!!
هؤلاء الانتهازيون لا يعنيهم سوى مصالحهم الشخصية، والاقتراب من منصات الدعاية، والتأثير فى القرار، وتشكيل وعى عام جمعى زائف، لا وجود له فى الحقيقة، ومتضخم فقط فى الخيالات المريضة، والعالم الافتراضى، خاصة مواقع التواصل الاجتماعى، «فيس بوك وتويتر»، ولا يتركون شاردة أو واردة إلا وأقحموا أنفسهم فيها.
وللأسف، أن هناك حالة عجيبة من الاستجابة والرضوخ لقبول هذه الفئات المدمرة، وكأننا نهرب من واقع مرير، ونريد أن نعيش فى كنف الانتهازى اللص طالما، ظريف، أو منجم وأفاق، طالما يردد على الأسماع كلمات تطرب لها الآذان، ولا نريد أن نسمع كلمات معبرة عن الحق والعدل، وترسيخ المبادئ والقيم، وإعلاء شأن المنطق والعقل، وهى فضائل تقاس بها تقدم الأمم والشعوب، وما من شعب، تقدم وازدهر إلا من خلال طرح أسئلة تخاطب العقل، وتسير جنبًا إلى جنب مع المنطق..!!
أما وأن الشعوب الباحثة عن الهروب من الواقع، وعدم مجابهة ظروفها، وآلامها، وتقوية نقاط ضعفها، والاعتراف بالفشل وتدارك الأخطاء، فإنها تفتح أحضانها لشرذمة الأفاقين والانتهازيين والمنجمين وضاربى الودع وأصحاب الحق الحصرى فى الفهلوة..!!
نعم، ما قاله ابن خلدون ينطبق على الأحداث الصاخبة التى وقعت فى مصر بعد خراب 25 يناير 2011 حيث ظهر الانتهازيون والأفاقون، وتجار الشعارات، وأعضاء الحركات والائتلافات، ونشطاء السبوبة، ونخبة العار، من المشوشين فكريًا، والذين لديهم قصور حاد فى البصيرة، ينصب اهتمامهم فقط فى عقد المناظرات السوفسطائية، والخروج من جدل للدخول فى آخر، وسقطت من حساباتهم فضيلة الحرص والخوف على المصالح العليا للبلاد.
ابن خلدون دشن مقولته منذ عقود طويلة، وتحققت توقعاته وكأنه يقرأ المستقبل، ويطلع على الغيب، فكل كلمة قالها، نعيشها الآن على يد تجار الدين، وتجار الشعارات، ومن خلفهم الخونة فى الداخل والخارج، يخططون ليل نهار، لإثارة الفوضى، وإسقاط مصر فى مستنقع الانهيار والتقسيم، ولا يهمهم أن تتحول البلاد لا قدر الله إلى أنقاض، فلديهم شبق واشتياق جارف للحكم حتى ولو على هذه الأنقاض.
نعم صدق ابن خلدون فيما ذهب إليه، ونحن نعيش الواقع كما جسده حرفيًا فى مقولته الشهيرة، وكأنه موجودًا معنا الآن..!!
ولك الله ثم جيش قوى وشعب صبور يا مصر..