ما الذى يحدث فى فرنسا بالضبط؟ ومن هؤلاء الذين يرتدون سترات صفراء ويقطعون الطرق ويشعلون النار فى المحال التجارية والسيارات ويواجهون رجال الشرطة بالعنف؟ هل هم حقا مواطنون فقراء يعانون من زيادة أسعار الوقود؟ طيب لماذا لم ينفض المولد وتنتهى تلك المظاهرات بعد تعليق حكومة ماكرون قرار زيادة أسعار الوقود لمدة 6 أشهر مقبلة؟ ليس هذا فقط بل أعلن المتحدث باسم الحكومة عن مراجعة بعض القرارات المتعلقة بنسبة الضرائب على الأغنياء والمعروفة بضريبة الثروة حال عدم جدواها.
إذن، الموضوع ليس احتجاجات عشوائية اندلعت فى رد فعل تلقائى على قرار حكومى، وربما يكون هناك جهات أو دول خارجية وراء هذه الاحتجاجات، خاصة بعد إصرار أصحاب السترات الصفراء على البقاء فى الشوارع، ومواصلة أعمال العنف فى العاصمة الفرنسية، ورفضهم أى محاولات للحوار مع ممثلى الحكومة وانتقلوا إلى مطالب جديدة منها رفع الحد الأدنى للأجور، فيما يبدو استغلالا لتراجع ماكرون وحكومته عن قرار رفع أسعار الوقود والسعى لتحقيق انتصار رمزى جديد قد يكون مقدمة لمطالب سياسية، وفى هذا الاتجاه قطع المتظاهرون الطرق وأشعلوا النيران فى الشوارع الرئيسية فى باريس، وأقام الناشطون خيامهم وفيها أدوات المعيشة، بالإضافة إلى شجرة الكريسماس، بينما ارتدى بعضهم قبعات «بابا نويل»، فى إشارة واضحة لنواياهم الاستمرار فى التظاهر حتى احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة.
أعود إلى السؤال الأول المحورى، هل ما يحدث هو احتجاجات شعبية تلقائية أم أن وراءها جهات ودول؟ ارجعوا بذاكرتكم إلى الوراء قليلا، إلى الثورة البرتقالية فى أوكرانيا وإلى ممارسات الربيع العربى فى تونس ومصر وسوريا وليبيا، لتعرفوا أن المنهج واحد والمصمم واحد وأن جهاز الاستخبارات الأكبر الذى يتصور أنه يدير العالم قد تحرك باتجاه فرنسا ماكرون، لحصار النظام وإسقاطه! قد يقول لى أحدكم، أنت تتكلم عن فرنسا وليس دولة من العالم الثالث، إحدى الدول الكبرى فى العالم عضو دائم فى مجلس الأمن وتمتلك حق الفيتو وإجمالى ناتجها القومى يزيد عن تريليون وثلاثمائة مليار دولار سنويا، كيف بالله عليك تسقطها احتجاجات شعبية؟
أرد على هذا السؤال بأن الإدارات الأمريكية المتتابعة منذ الحرب العالمية الثانية تعتبر أوروبا بأكملها حليفا إجباريا لسياساتها، وهذه الإدارات الأمريكية كانت تتدخل فى أدق السياسات الأوروبية الداخلية، بل إن الصناعات الأوروبية الرئيسية دائما ما تتضمن نسبة من المكون الأمريكى بما يضمن تحكم ساكن البيت الأبيض فى مفاتيح التشغيل الأوروبية، ولكن الإدارات الأمريكية قبل ترامب كانت دائما تعتمد الشعارات والعبارات السياسية التى تحتفظ للدول الأوروبية بكرامتها بينما هى تنفذ الإملاءات الأمريكية، وبعد ترامب شهدنا عصرا جديدا من السياسات والتصريحات الأمريكية الفجة التى لا ترى حاجة لما يسمى بالدبلوماسية الناعمة، ومن ثم وضعت أوروبا والصين وروسيا كخصوم تجاريين عليهم أن يدفعوا لواشنطن بشكل أو بآخر.
وفى المقابل انتفضت بعض الدول الأوروبية فى مواجهة السياسات الأمريكية القديمة المصاغة بصورة جديدة، وفى مقدمة هذه الدول فرنسا وألمانيا قلب أوروبا النابض، وبالفعل عارض ماكرون قرار ترامب حول الانسحاب من الاتفاقية النووية التى وقعتها الدول الكبرى مع طهران، برعاية باراك أوباما، فى يوليو 2015، حيث رأى ماكرون أن قرار ترامب بالانسحاب جاء دون تنسيق مع الدول الأخرى وليس له ما يبرره ولا يمكن فرضه على الشركاء الآخرين، كما عارضه فيما يتعلق بانسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ واعتبرها خطوة كارثية على كوكب الأرض بكامله لصالح حفنة من الشركات الصناعية الأمريكية الكبرى، ولكن الصدام الأكبر كان بعد تصريحات ماكرون بضرورة تأسيس جيش أوروبى مشترك لمواجهة التهديدات القادمة من روسيا والصين والولايات المتحدة، ردا على وضع ترامب أوروبا ضمن الخصوم التجاريين لواشنطن مطالبا بفرض مزيد من الضرائب على الواردات الأوروبية.. وللحديث بقية.