هو حالة لا تستطيع الفكاك منها، هو آية من آيات فن مصر وأصالتها، بالنسبة لى فإن هذا الفنان العظيم الذى تمر ذكرى وفاته اليوم مثل سيد درويش تماما، فقد جعل سيد درويش الموسيقى المصرية مصرية بحق، فأصبح لسان الفلاحين والعمال، كما جعل راغب عياد الفن مصريا بحق، فتميزت خطوطه وتناغمت ألوانه، وأصبحت لوحاته موسيقى مصرية خالصة، بها الكثير من عرق الناس وأغنياتهم، بها الكثير من تطلعات الناس وسلامهم، به الكثير من بساطتهم وشغفهم بالحياة والحب.
كان راغب عياد مصريا، وكفى بهذا الوصف مدحا، فمصر لدى عشاقها ليست صفة ولكن «درجة»، رتبة، مكانة، ولو كان الأمر بيدى لمنعت منح هذه الرتبة للجميع، وقصرتها على مستحقيها، على من يدركون عظمتها ويعملون على رفعتها، على من يخلصون لها، ويبررون على هذا العشق، سواء بالعمل الطيب أو الإنجاز المشهود أو السيرة الحسنة.
عاش راغب كما الراهب، متفان فى عشقه لمصر من الخط الأول، واللمحة الأولى واللوحة الأولى، وقد كان أول الذين نزعوا عن ريشتهم الملامح الغربية والأساليب الغربية والروح الغربية، فأفسح الطريق لكل من يريد أن يعبر عن نفسه بحق، وشق لفنانين جيله والأجيال اللاحقة طريقا ممهدا من الحلم والأصالة، لم يخاطب ذوق النخب، ولم يسع لأن تكون لوحاته «زينة» فى بيوت الأثرياء، ضحى بمجد مادى زائف، مقابل شخصية مصرية واضحة، وهو أمر لا يجب أن نستهين به فى وقت كان الفن فى مصر فى بدايته، وكانت حياة الفنانين دوما على الكفاف.
اليوم تمر ذكرى وفاة هذا العظيم، وللأسف أو قل كالعادة، لا يجد أمثال هذا العبقرى الأصيل من يحتفى به أو من يخلد سيرته فى قلوب الناس، لا جائزة باسمه، ولا متحف يحمل بصماته، ولا مؤتمر يحتفل بإنجازه، يعيش المخلصون ويموتون، نحن أبعد ما يكون عن إخلاصهم، والعيب فينا بلا ريب، فليس لنفى المخلصين معنى سوى أننا أصبحنا لا نتذوق الإخلاص ولا نقدره، وليس لتجاهلهم من إشارة سوى أننا غرقنا فى العمى.