وكأن صناع الفتنة لا يريدون أن يتركوا مصر لحالها، تسعى بكل قوة لتنفض عن نفسها غبار الفتن الطائفية، وتمكن دولة المواطنة من أن تستقر وتسود، لكن شياطين الدم يتشبثون بخيوط النار التى يشعلونها فى قرى الصعيد بألاعيب وحيل ملعونة.. يتحسسون مناطق الضعف ويفتشون عن أماكن التشدد ليوقدوا نار الخراب، وكلنا نعلم هؤلاء ونعرف حقيقتهم وما يريدونه لأهلنا، لا هم محبون لأقباط مصر ولا عباد دائمون فى الكنائس، ربما لم يدخلوها من الأساس، لكنهم يريدونها خرابًا، مساجدها على كنائسها.
أعرف المنيا جيدًا، وأفهم شخصية أهلها، طيبون وتجمعهم منذ مئات السنين علاقات لم تعرف الطائفية، جدران البيوت أغلبها «شرك» من الشراكة، والغيطان بالمزارعة، لا يفضل المسلمون شركة الزراعة إلا مع الأقباط، ولم يدخل بينهم الشيطان أبدًا، إلا منذ أن عرفنا التطرف وانتشرت بيننا جماعات التمسح بالدين.
كثيرًا كانت تحدث المشاجرات بين مسلم ومسيحى، لكنها أبدًا لم تتحول لفتنة طائفية إلا بعد أن خرجت الجماعات الإسلامية والإخوان من جحورهم السوداء، ففى دوار العمدة كانت الخلافات تنتهى دون تضخيم إعلامى أو سباقات تسخين، إلى أن ظهر «الفيس بوك» وملاعينه المدفوعون ضد مصر لتفتيت وحدتها بشائعات الفتنة ونيران الوقيعة بين أبنائها.
لو سأل واحد من مشعلى الفتن على الفضاء الإلكترونى والده أو جده عن رأيهم فيما يفعله الآن لكانت إجابته طعنة فى صدره، فمن سبقونا من أجيال كانوا يدركون أكثر منا معنى الوطن الذى يجمعنا، لم يغلق مسجد واحد فى قرى مصر أبوابه فى وجه مسيحى يحضر جنازة أو عقد قران، ولم يتردد مسلم واحد لحظة فى أن يدخل الكنيسة ليشارك فى إكليل أو تعزية، الروح المصرية كانت أعلى بكثير، القبلات لم تكن للتصوير وإنما كانت من القلب، حب يعادله حب ويقابله تسامح على أرضية الوطن.
فى المنيا تحديدًا شاهدت وعشت هذا بنفسى، لو عاد الأنبا أثناسيوس، مطران بنى سويف الراحل إلى الحياة لنطق بما يخرس الألسنة ويرجم المتشددين من الطرفين ومشعلى الفتنة بما يسكتهم، كانت أيامه فى عز انتشار الإرهاب فى جنوب المنيا، بينما شمالها كان ينعم بهدوء يحسدونه عليه، لأن الكنائس كان يحرسها المسلمون، والأقباط يدهم بيد إخوانهم ليدافعوا عن قراهم ضد أى متطرف أو خارج عن صحيح الدين.
عشرات المساجد بنيت بمشاركة مسيحية.. تبرعات بالطوب الأحمر والأسمنت والخرسانة وربما العمالة، ولم نسمع وقتها من يقول إن هذا حرام لأن أولاد الحرام لم يكونوا قد تمكنوا أو سيطروا على العقول، وعلى يد الأنبا أثناسيوس انتهت مئات وربما آلاف الأزمات، طرفاها مسلم ومسيحى وكثير منها كان أضعاف ما يحدث الآن، لكنها كانت تحل دون ضجيج، لأنه كان وطنيًا صاحب حكمة ينصت لها المسلم قبل المسيحى لم يفكر فى إشعال نيران الغضب بل كان يطفئها بيده حتى ولو حرقته.
قالها فى جلسة وسمعتها بنفسى، إن الفتنة لا تظهر إلا إذا وجد رجال دين متطرفون من الطرفين، وكان يتساءل بحق، لمصلحة من نترك أنفسنا فريسة لمن يريد استخدامنا لتخريب بلدنا، سنقتل أنفسنا وسندمر بيوتنا ونقضى على حياتنا، وسنكون فى النهاية مطالبين بأن نشيع جثثنا ومن حرضنا سيسعده دمارنا.
هل فكر كل شاب ممن يشعلون الفتنة أو يبحثون عن نار الخراب وسأل نفسه، ماذا سيجنى، هل سيحجز مكانًا فى المجد، هل سيصبح رمزًا، هل سيحقق فوزًا، وعلى من، ما بيننا أكبر بكثير، دماؤنا مختلطة، فالدماء لا تختلط فقط بالنسب، وإنما بالعشرة وأهل مصر عشرة آلاف السنين.
لن تنفعنا أبدًا كنيسة تضاف إلى عدد الكنائس أو مسجد يخصم من أعداد المساجد، قالها البابا تواضروس «دولة بلا كنائس أفضل من كنائس بلا دولة»، وأقولها، مثل كل مسلم دولة بلا مساجد خير من مساجد بلا دولة، جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا، لنصلى جميعًا فى أرض الله، نقرأ معًا الفاتحة ونردد الجبانيوت لندافع عن الوطن، نختلف فى كل شىء، لكن يجب ألا نختلف على مصر وحق كل منا فيها، الحق الذى تقره المواطنة بمعناها الذى يطبق حرفيًا الآن، اعبد ما تشاء، فالعبادة بينك وبين الله، لكن لا تنتمى لوطن غير مصر، هى سندك وحمايتك، مهما استقبلك الغرب وفتح لك أبوابه فلن تجد أفضل من تراب بلدك، واسأل جدك الذى نال الشهادة من أجلها على أرض سيناء.
ومهما احتضنتك جماعة أو تنظيم أو مولتك دويلة أو إمارة فلن تكفيك إلا بلدك، واسأل من سبقوك فى الخيانة المدفوعة لتعلم أن الخائن لوطنه ثمنه عند من اشتروه أشبه بكلب إذا كبر أعدموه بالرصاص، وإذا مات ألقوه فى القمامة، أما الوطن فهو حاميك حيًا وميتًا.
نحتاج الآن لحكمة إثناسيوس وعقلية تواضروس ورؤية السيسى فى تمكين المواطنة، والعبرة التى يمكن أن نرجع إليها جيش مصر الذى لم يحدد لنفسه ديانة ولم يرسم لنفسه شعارًا، لأن ديانته هى الوطن وشعاره مصر، وأفروله يرتديه المسلم قبل المسيحى دفاعًا عن الأرض.
افتحوا أبواب عقولكم لتدركوا أننا لا نحرق بالفتنة عدوًا، بل نحرق أنفسنا وندمر بلدنا الذى لو حدث له ما حدث لدول أخرى فلن نجد مأوى ولن يستقبلنا أحد.
انتبهوا أيها الشباب المتغابى، استيقظوا يا رجال الدين المغيبين تنبهوا أيها الآباء الموهومون، علموا أولادكم حب الوطن بلا تطرف فهو الحامى لنا جميعًا وبدونه سنفقد أنفسنا.