حلم الشاعر أن يخط لنفسه طريقا مختلفا، أن يصبح علامة فاصلة، أن يخط له أسلوبا مميزا، لغة خاصة، أن يتخلص من آبائه دون قسوة، ويستعد لاستقبال قصائده دون احتفال، حلم الشاعر أن يكون شاعرا، أن يسمع الأرض والسماء والهواء، أن يحرر حواسه ويطهر جوارحه لكى يتحد مع الكون، فتتحقق فيه قيمة «الشعور» ويستحق أن يصبح شاعرا.
كل هذه الأحلام حققها «جمال فتحD», فى ديوانه الأخير «لابس مزيكا» الذى تجاوز فيه نفسه، كما تجاوز تجاربه السابقة، كما تجاور مع تجارب أسماء فارقة فى تاريخ شعر العامية المصرية، لجمال فتحى نفس خاص، بصمة لا تخص أحدا سواه، لجمال فتحى فى «لابس مزيكا» شرف الإضافة لماهية شعر العامية، فلن تجد فى غنائيته غناء، ولن تجد فى نثره جفافا وجفاء، تحتار، أى موسيقى تبعها هذا الدرويش فى سريانه، فإن نظرت إلى أبياته احترت هل فى موسيقاها، ليست موسيقى تقليدية، وليست نثرا معتادا، لكن ما أن تنغمس بكامل وعيك فى القراءة حتى تتأكد من أنها موسيقى خاصة بجمال فتحى، موسيقى الشعر عنده أشبه بالموسيقى التصويرية فى الأعمال الدرامية، لا تقتنص دور البطولة لكنها تتفنن فى إبراز البطل، لا تعلو على الأحداث وإنما تعلى الأحداث، موسيقى تشبه إلى حد بعيد موسيقى الهمهمة، وكأنه تغنى فى ظلك فى الليل، وكأنه تهدهد طفلك دون أن تزعجه، هكذا موسيقى جمال فتحى.
فى هذا الديوان المفارق، لا يتخد جمال فتحى من أدوار الشاعر التقليدية مطية يمتطيها لى، لكنه يخترع لنفسه دورا جديدا، لا هو الشاعر الرائى ولا هو الشاعر الحالم، ولا هو الشاعر المتألم ولا هو الشاعر المغنى ولا هو الشاعر المبشر ولا هو الشاعر المخلص، بل هو الشاعر الملخص، يقدم جمال فتحى نفسه فى هذا الديوان باعتباره موجزا مختصرا للآلام والشعور والأشخاص والجمادات والنباتات، هو لا يكلم الأحجار فحسب، بل تكلمه الأحجار أيضا، هو لا يصف لك أعمدة الإنارة فى الشوارع فحسب، بل يتقمص شخصية عمود النور، هو لا يستطعم التراب فى فمه فحسب، بل يستشعر بخطوات العابرين على التراب.