إنها رقصة موجة تداعب نسيم البحر فى عصارى الأيام الجميلة، وحلم مساء أجمل محمل بأريج خاص قادم من أعماق التاريخ.. إنها صوت شاعر، وتغريدة طائر عذب الصوت.. إنها صهيل جموح، وصهوة طموح.. إنها الصاعدة الواعدة دوما نحو المجد والسمو، وهى التجربة الرائدة فى الغربة والحنين إلى الماضى العريق، إنها الحلم يتأسس دوما بمجرد أن تطأ قدماى أرضها الطيبة، حتى لو بعد عقدين من الزمان، وهى الإبداع يتنفس هواءها المحمل برطوبة البحر الأحمر فى لحظات الأصيل، وفى دخول شتاء دافئ مفعم بالنشوة.
قالوا قديما إنها "أم الرخا والشدة"، وكانت الشدة: "حر.. عطش.. ورطوبة"، والرخا: "بحر.. وسما.. ومواسم خير معدودة".. إنها مدينة "جدة" السعودية، والتى استحقت عن كثب لقب "عروس البحر الأحمر"، لأنها استطاعت أن تنهض بمدينتها القديمة إلى مدينة كبيرة ومتطورة ذات نماء اقتصادى مبهر، فجدة خلال الثلاثة عقود الأخيرة أصبحت حيوية فى كل مجالاتها التّجارية والخدمية والصّناعية والسّياحية، ويبدو التطور اليومى سمة من أهم سماتها الحالية.
وهى بحق أصبحت مدينة تتلألأ على الساحل الغربى للبحر الأحمر وتمضى مع الزمن فى تيه وخيلاء، ليس باعتبارها ثانى أكبر مدن المملكة العربيّة السعودية بعد العاصمة الرياض، بل لأنها البوابة الرئيسية للدخول إلى أعظم مدن العالم وهى "مكة المكرمة"، من خلال استقبال الحجيج بحراً وجواً من ميناء جدة البحرى ومطار الملك عبد العزيز الدولى، فالمسافة ما بين جدة ومكة المكرمة لا تبعد عن بعضهما إلا نصف ساعة بالسيارة.
بعد غياب عنها لمدة تزيد عن العقدين بقليل، وبدعوة كريمة من وزارة الإعلام لحضور فعاليات "معرض جدة الدولى الرابع للكتاب" أتيحت لى فرصة الزيارة والتجول فى ربوع جدة الأسبوع الماضى، وأصابتنى دهشة خاصة من رونقها المبهر، وجمالها السّياحى الفاتن الذى يزداد يوما تلو الآخر؛ فلا تزال تستقبلك بذات البريق وبهاء منظرها أطول نافورة فى العالم، والتى يصل طول ارتفاع مياهها 312م، ويزيد وزن الماء المدفوع فى الهواء على 18طن، ويمكن مشاهدتها من جميع أنحاء جدة، ولا عجب أبدا أنها ماتزال تستحق التوقف والاستمتاع بمنظر مياهها المتراقص فى ليالى البهجة والسرور.
كان لا بد لى من التوجه إلى كورنيش جدة، خاصة الجزء الجنوبى منه، حيث المكان مناسبا لجلسات العائلات والزوار على أرصفته الصخرية الجميلة، مصحوبة بأهازيج موسيقية خليجية، وتحت أشجار النخيل العملاقة الملونة بمصابيح الإضاءة التى صنعت لوحة تشكيلية غاية فى الدقة والأناقة التى تواكب خطة ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى رؤيته للمملكة عام 2030، والتى بدت ملامحها فى الظهور منذ عام تقريبا.
المشى على كورنيش جدة له متعة خاصة تصاحبك دوما عند التوجه إلى المراكز التجارية والفنادق والمطاعم التى تزدحم وتتسابق لتقديم خدماتها لزوار الكورنيش من كل أرجاء المملكة وباقى أقطارالمعمورة، وإذا تعبت من السير ربما استوقفتك منظر مميز لعربات الخيل المزينة بالأضواء الملونة لركوبها فى رحلة استجمام مميزة، والتمتّع بجمال شواطئها الرملية الناعمة، فالكورنيش هو عنوان الرفاهية فى جدة، وهو مقصد الراحة وواحة الأمن والأمان التى تشهدها المملكة حاليا.
استوقفنى تغير طارئ وجديد عندما وصلت إلى نهاية الكورنيش، فقد لاحظت الكثير من المخيمات والقرى السياحية التى استحدثت مؤخرا، حيث تستقطب وتفتح ذراعيها مرحبة بتلك الأعداد الكبيرة من الرواد الذين جاؤوا للتنزه على شواطئ "شرم أبحر"، والذى يمتد على شكل هلال يلتقى فيها الشاطئ الشمالى والجنوبى لمدينة جدة، ويعتبر الشاطئ الشمالى هو المكان المثالى للغوص نتيجة مِياهه العميقة وجمال شعابه المرجانية فى تنوع بديع يسر النظر ويدخل البهجة فى نفس الغواصين.
السحر وبهاء المنظر وجماله الأخاذ لم ينتهِ بعد فى جدة، فهى علاوة على كل ما سبق تنبض بأسواقها ومراكزها التجارية؛ والتى تزيد على أكثر من ثلاثمائة وعشرين سوقاً ومركزاً تجاريا، وأجمل ما فى هذا المناظر أنه تنتشر فيما بينها الكثير من المجسّمات الجميلة المنحوتة، التى صممتها أيدى محترفة من السعودين وفنانى العالم، ويقارب عدد هذه المجسمات أكثر من ثلاثمائة وستين مجسماً بين ميادينها وشواطئها، لا يزال بعضها رابضا فى مكانه لأكثر من أربعة عقود لم يتأثر بعوامل التعرية إلا قليلا.
الزائر هنا لن يمل أبداً من اندهاش نظره بجماليات تلك المجسمات، والتقاط الصور التذكارية، فلن يدرك إلا أن جدة هى عبارة عن متحف مفتوح للتسوق، وهى مدينة تشهد تطورا ملحوظا خلال السنتين الأخيرتين، لكنها تظل عريقة بأصالتها وبمساحتها الكبيرة التى لم تتخل بعد عن حارتها القديمة الأصيلة، فرائحة تراث جدة القديم ما زالت تسطره وتشهده الحارات القديمة المشهورة؛ كـ"حارة اليمن، وحارة البحر، والشام، وحارة المظلوم، وحارة البلد"، فالطابوق الطينى وحجر الجص مازال يزين بيتوها القديمة بذات الألوان الهادئة.
أقف الآن وسط البلد وسط الذكريات والأحلام الجميلة وترتدى جدة ثوبًا مطرزًا من فخر التألق، وتغازل بيوتها التاريخية الذاكرة والذائقة، فتدعو أهلها لزيارتها وتدعو من لا يعرفها بأن يخوض تجربة الزيارة.. فى جدة التاريخية مشهد سياحى لا يستطيع سائح أو زائر أن ينساه، ففى ليلها يتراقص ضوء من الألوان مع ضجيج لأصوات باعة متجولين.. وكأن البوابة التاريخية فُتحت أمام الجمهور على مشهد من زمن قديم وجميل للقادم إليها من بعيد.
فى كتابه "الأسطورة فى مدينة جدة" يقول عبد العزيز عمر أبوزيد: "لو أردنا استخراج شهادة ميلاد لهذه المدينة لثبوت مكان وزمان ولادتها كما هو المتبع والسائد، فعلينا وقتئذ أن نحدد المهد الأول الذى شهدت فيه جريان ماء الحياة على ترابها، ولا سبيل لذلك بغير معرفة بداية حياة البشر، وإذا سلكت هذا المسار فإن بطون كتب التاريخ القديم ستجيبنا بإجماع على نزول أم البشر "حواء" عليها السلام لأرض جدة".. إذن تبدو الحياة هنا قديمة منذ الأزل.
واسم جدة مختلف فى سببه، فقد قال "ياقوت الحموي" و"ابن بطوطة" فى رحلته إن أصل التسمية لهذه المدينة هو "جُدة" التى تعنى بالعربية شاطئ البحر، ويقال أيضاً إن اسمها نسبة إلى شيخ قبيلة قضاعة (جدة بن جرم بن ريان بن حلوان بن على بن إسحاق بن قضاعة)، ومنهم من ينسبها إلى معنى "الجدة" التى هى أم الأب أو الأم، نسبة إلى حواء التى يقال إنها دفنت فيها، وتوجد مقبرة فى المدينة تعرف باسم مقبرة أمنا حواء.
وأياً كان، فجدة قديمة قدم التاريخ، ومما عزز أهميتها وموقعها الاستراتيجى قربها من مكة المكرمة؛ فكانت محطة للزائرين والمعتمرين والحجاج من أقدم العصور، ولهذا السبب وغيره كشف الدكتور "لويس بلين" الدبلوماسى الفرنسى السابق، بأن هناك أكثر من 50 كاتباً وأديباً ورحالاً فرنسياً، كتبوا صورا متكاملة عن مدينة "جدة" السعودية عبر تفاصيل زاخرة بالتفاصيل الدقيقة، بيد أن كثيرا من هذه الكتابات هى مؤلفات فرنسية، لم تترجم إلى اللغة العربية، مما يعيق اطلاع القراء غير الناطقين بالفرنسية على هذه المصادر غير المستثمرة والخافية عنهم.
وأوضح "بلين" أن الفترة التى استحوذت فيها جدة على أكبر قدر من الاهتمام بين الكتاب الفرنسيين، تقع بين عامى 1830 و 1870 وتتزامن هذه الفترة مع العصر الذهبى للأدب الاستشراقى الفرنسى، مشيرا إلى أن هناك الكثير من كبار الكتاب الفرنسيين أمثال "فيكتور هوغو، ألكسندر دوما، جول فيرن" كتبوا عن جدة دون أن يزوروها، وفى هذا دلالة واضحة على مدى جاذبية هذه المدينة.
أسعدنى الحظ بزيارة صرحين كبيرين وعظيمين يأتيان فى إطار خطة تطوير المملكة تزامنا مع رؤية ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، والصرح الأول هو مطار الملك عبد العزيز الدولى، والذى يعد بمثابة المدينة المتكاملة، وأحد أهم المعالم الحضارية فى جدة، والذى تبلغ تكلفته ستة وثلاثون مليار ريال سعودى، وسبق أن فاز المشروع الجديد بأفضل مشروع هندسى على مستوى مطارات العالم خلال المنتدى العالمى الثامن للبنية التحتية لعام 2015م، كما فاز مشروع المطار الجديد بالجائزة الدولية، من حيث الشكل والمواصفات والكفاءة والتجهيزات التقنية الحديثة.
ويعتبر مطار الملك عبد العزيز الدولى الجديد أحد أكثر مطارات المملكة حركة، حيث من المتوقع أن يخدم 36.5% من إجمالى عدد المسافرين من مطارات المملكة، ويوصَف بأنه البوابة الجوية للحرمين الشريفين، فقد خُطط للمشروع استيعاب 30 مليون مسافر سنويًا فى أوقات الذروة بالمرحلة الأولى، والمرحلة الثانية 55 مليون مسافر، وصولاً إلى 100 مليون مسافر فى مرحلته الثالثة، إضافة إلى استيعاب الجيل الجديد من الطائرات العملاقة ـــ كود F ـــ مثل (A380) ليصبح مطارًا محوريًا وفق أسس تجارية.
أما الصرح الثانى قطار الحرمين السريع، فهو عبارة عن خط سكة حديدية كهربائى يربط بين منطقتى مكة المكرمة والمدينة المنورة مرورًا بمحافظة جدة، ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية بطول 450 كم، وبطاقة استيعابية تبلغ 60 مليون مسافر سنويًا، وسرعة تشغيلية تصل إلى 300 كلم/ساعة، وبتكلفة إجمالية 63 مليار ريال سعودى، ويعد أول وأسرع قطار فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويتكون المشروع من 35 قطارًا، وكل قطار يحتوى على 13 عربة تبلغ سعة كل واحدة منها 417 مقعدًا، وله خمس محطات: محطتان فى مكة والمدينة، ومحطة فى مدينة الملك عبدالله الاقتصادية، ومحطة فى مطار الملك عبدالعزيز الدولى بجدة، وأخرى فى وسط محافظة جدة، وقد افتتح المشروع بالتزامن مع اليوم الوطنى السعودى فى 25 سبتمبر 2018، بحضور العاهل السعودى الملك سلمان بن عبد العزيز.
ويعد مشروع قطار الحرمين السريع الأضخم فى منظومة النقل العام، وأحد خطط الدولة السعودية لتوسعة النقل عبر الخطوط الحديدية، لمواكبة تنامى أعداد الحجاج والمعتمرين، ولتخفيف الضغط على الطرق بين مكة وجدة والمدينة، عطفا على أنه وسيلة توفر النقل الآمن والسريع، وأحد أمثلة ركائز رؤية السعودية 2030 التى تسعى لتقدم ترتيب المملكة فى مؤشر أداء الخدمات اللوجستية.
ويأتى هذا بالتزامن خطة التنمية التى أطلقتها المملكة على عدد من الأصعدة ومنها مجال النقل العام، وباعتباره أحد المشاريع الهامة التى تسهم فى عملية النمو الاقتصادى، ويساعد فى إيجاد فرص استثمارية متنوعة، ويوفر وظائف للجنسين، فقد حظى بدعم لا محدود لإنجازه وفق المعايير العالمية.
سبعة أيام قضيتها فى رحاب "جدة" بعد طول غياب، لكنها لم تفقد بهاء طلتها، بل ازداد بريقا على بريقها الآخاذ، الذى شغل بجمالها عقل ووجدان المبدع السعودى، بحيث أصبحت رافداً مهماً وإلهاماً جميلاً أوحى له أن يكتب أروع القصص وأجمل الروايات وأبلغ القصائد، وذلك بعد أن وقف المبدع أمام سحر شواطئها وتأمل رواشينها، وقد وقف جمهرة من شعراء الرعيل الأول أمام عراقتها وحضارتها، فى حين رسم كوكبة من المبدعين الشباب لوحات باذخة استمدتها من فضاءاتها الواسعة التى عرفت بها جدة التى تغنى بها الفنان الكبير محمد عبده من كلمات بدر بن عبد المحسن قائلا:
أسقى كل البحر من طلك عذوبه
وسرحى ضيك عليه
فى المسا مر وشذا عطرك فى ثوبه
وماسك الشمس بيديه
تلعب بشعرك هبوبه.. وش عليه
تضوى نجومك دروبه.. وش عليه
كل ما جاء الطارى فى عرس وخطوبه
قلنا مين هى العروسة.. قالوا جدة!