مصر ليست تاريخ الفراعنة فقط، وقوتنا الناعمة ليست آثارهم فقط ولا حتى آثارنا الإسلامية أو المسيحية، مصر أيضا تمتلك قوة ناعمة مهمة فى تاريخها الحديث.. نمتلك تراثا إذاعيا وتليفزيونيا.. نمتلك أفلاما ومسلسلات وأغانى.. نمتلك قراءات وابتهالات.. وحتى العام الألفين كانت المنطقة العربية وأفريقيا وأجزاء من آسيا لا تعرف من التلاوة سوى قراءات محمد رفعت وعبدالباسط والحصرى والمنشاوى وعشرات غيرهم.. كانت الحفلات تقام لهم وكان الملوك والرؤساء على رأس مستقبليهم.. كان يكفى أن يقال إن عبدالباسط فى المسجد الأموى بدمشق أو أن الحصرى فى المسجد الحرام أو المسجد النبوى أو أن مصطفى إسماعيل هنا أو هناك، وحتى زيارات الشيخ محمود الطبلاوى لشرق آسيا وأفريقيا، كانت تحظى بملايين من المستمعين والمتابعين.. ليسوا هؤلاء فقط بل كانت ابتهالات النقشبندى وطوبار والسمكرى وعمران والطوخى هى الرفيق لكثير من الليالى العربية.. دولة التلاوة التى كان دائما سلطانها من مصر تكاد تختفى مع ظهور لأجيال جديدة من الأصوات الخليجية تدعمهم رؤوس أموال كبيرة.. لا أقلل من حلاوة الصوت لديهم ولا من صدق جمال التلاوة، ولكن ألفت النظر إلى أن هناك عشرات الأصوات فى مصر من الأجيال الجديدة لا تقل عن آبائهم وسابقيهم من قراء القرآن الكريم فى مصر، ولكن غياب الراعى أو الداعم لهم والاكتفاء بجهدهم الشخصى أو لعلاقة بعضهم بالعائلات الكبرى كان السبب وراء بعدهم عن المنافسة.
وجود قارئ قرآن أو مبتهل مصرى فى ليالى شرق آسيا وأفريقيا دعاية وتمكين لدور مصر فى دول كثيرة.
الغياب ليس فقط عن دولة التلاوة، ولكن أيضا غابت دولة الغناء والطرب، وأصبحنا ننتظر الأغنية من دول أخرى، فأصبح نجوم الغناء فى العالم العربى يطربون بلهجات أخرى غير العامية المصرية.. نعم وراءهم مؤسسات وأشخاص وممولون يدفعون بالملايين لشراء الجوائز لهم وأحيانا لشراء الحفلات بالكامل، ووضع محطات تليفزيونية وإذاعية قيد تصرف مديرى أعمالهم، ولكن يبقى الصوت المصرى الأصيل هو الحصان الرابح لو أحسن استغلاله ورعايته.. لحقت الدراما للأسف بالتلاوة والطرب، ولم يعد المشاهد العربى يضبط ساعته على وقت إذاعة الهجان أو ليالى الحلمية، ولم تعد الشوارع تخلو من المارة ساعة بث المسلسل العربى الذى كان يكفيه أن يكون على تتر المسلسل قطاع الإنتاج- اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصرى، كنا نسير فى شوارع المغرب أو العراق فيسألوننا عن ممثلينا وهل نراهم وما هى أخبارهم، كان الإعلان عن حفل لأم كلثوم يكفى لأن يقطع المستمع العربى آلاف الكيلومترات، وأن يقف الرئيس التونسى فى انتظارها، وأن تحمل سيارتها على الأعناق فى شوراع العواصم العربية.. كنا نمتلك قوة ناعمة من تلاوة وابتهال وطرب ودراما وسينما فرطنا فيها عمدا أو بحسن نية أو جريا وراء مكاسب سريعة انتهت.. فرطنا فى تراثنا السينمائى، وأصبحنا نجلس أمام قنوات خليجية تعيد عرض أفلامنا الأبيض والأسود بعد معالجتها نتحسر على أننا الذين أنتجنا وصورنا.
القوة الناعمة استغلتها تركيا فتضاعفت عندها السياحة، وكسبت المليارات بمسلسل تاريخى تم تصويره فى قصور تاريخية، ونحن تركنا القصور التاريخية لتقام فيها الأفراح ومنعنا التصوير إلا برسوم عالية وغالية وقيود اضطرت منتجو أفلام أجانب لبناء أهرامات فى المغرب والتصوير هناك.. وضعنا قيودا على استيراد الورق وضرائب على الأحبار ومواد الطباعة والنشر، وانظروا إلى معارض الكتب فى الشارقة والرياض حتى أربيل العراق.
كيف إذن نستعيد قوتنا الناعمة ولا نبكى فقط.. الرئيس وهو يعيد بناء الدولة، أقام الجسور والطرق وأنشأ المدن الجديدة والذكية، ولكن مسؤولينا لم يفكروا أن يكون بكل مدينة جديدة أو حى أقيم مكان حى عشوائى أن تكون هناك دار للسينما أو مسرح صغير بجوار ملاعب الكرة، وأن يكون بيت الثقافة موجودا بجوار المدرسة وأن تعود لمصر المسابقات لاختيار نجوم المستقبل، أن يكون بأجهزة الدولة كاشفون للنجوم يذهبون إلى القرى والأحياء الشعبية والمدن البعيدة عن القاهرة لاكتساب المواهب.
كيف نستعيد قوتنا الناعمة.. ماذا لو تبرع رجال الأعمال لشراء التراث وترميمه، ولدى الهيئة الوطنية للإعلام تراث إذاعى وتليفزيونى لو أعيد اكتشافه ومعالجة ما تعرض له من سوء تخزين لكفاها الحاجة للاقتراض وسداد الديون.. لدى عائلات كبيرة فى مصر تراث من حفلات خاصة لكبار المقرئين والمبتهلين والمطربين.. ماذا لو سلمتها لهيئة تقوم على حفظها ومعالجتها وإعادة بثها.
لدينا تراث فنى وكتب ومكتبات لو أحسن استغلاله سينافس الآثار القديمة فى جذب المواطن المصرى قبل السائح.
لماذا لا ننشئ وزارة للتراث بعيدا عن وزارتى الثقافة والآثار أو هيئة للتراث تتبع رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء ويتبرع لها المصريون، وتقوم الهيئة بتجميع تراث المقرئين والمطربين والكتب النادرة والمكتبات التى امتلكها كبار مبدعينا، وتركت أو أهملت ويبحث العاملون فيها عن نسخ جريدة مصر السينمائية ونسخ الأفلام القديمة التى لم تباع بعد ومخازن الكتب القديمة.. وفى المقابل لماذا لا يقوم رجال الأعمال بتمويل أعمال تاريخية تنتجها الدولة أو شركات الإنتاج الكبرى وتقدم لها أجهزة الدولة التسهيلات.. لدينا فيلم صلاح الدين ولا يوجد لدينا فيلم عن حرب أكتوبر المجيدة، صورنا لقطات ومشاهد لـ30 يونيو، ولم يقدم فيلم واحد عن ثورة وإرادة الشعب فى استعادة دولته.. لدينا مصر جديدة تبنى واكتفينا بلقطات فى برامج.. قوتنا الناعمة تحتاج إلى من يدافع عنها ويرعاها.. لدينا فرصة فى تنظيم بطولة الأمم الأفريقية لعلنا نحولها ليس فقط لمباريات، ولكن إلى رسالة للعالم كيف تبنى مصر الحديثة وماذا تمتلك من تراث عظيم.