كيف مرت عليه كل تلك السنوات ولم أكتب عنها، هل هى زحمة الحياة؟ أم تكدس الأحداث التى تستحق أن ننوه عنها لعل وعسى تجد آذانا صاغية؟ أم ماذا؟
لا أعتقد أن هناك عذرا مقنعا أننى لم أخصص لها مقالا كل هذه المدة وأن تقتصر كتاباتى لها على صفحات التواصل الاجتماعى طوال هذه السنوات!!
أعذرينى يا أمى فها أنا أحاول أن أكتب لك ولكن تأكدى أنه لا توجد كلمات توفيكِ حقك.
منذ طفولتى وأمى بالنسبة لى ولإخوتى الطرف الحنون الذى نلجأ إليه خوفا من قسوة الأب عندما نخطئ، أو عندما تكمن فى أنفسنا أمنية، أو طلبا نعلم أن والدى ربما سيرفض.
تحملت لسنوات مرض والدى ولم تشتك أبدا، بل رأيتها جبلا يتحمل ويتألم بداخله ويبتسم لنا، دعت المولى عز وجل ألا يفارق أبى الحياة ونحن فى المستشفى بجواره حتى لا تكون اللحظة قاسية ومؤلمة علينا وقد استجاب الله لها، توفى والدى وأنا أغادر المستشفى ولم أعلم بوفاته إلا عندما وصلت المنزل وكنا جميعا معا أنا وأمى وإخوتى.
مرت الحياة بحلوها ومرها حتى مرت أمى بتجربة لم تتخيل يوما أنها ستمر بها، وذلك فى عام 2008 عندما سجنت أنا على أثر إضراب 6 إبريل 2008، كانت تعلم ما أفعله خلال ساعات أمكثها أمام جهاز الكمبيوتر، تنهرنى أحيانا، وتعاتبنى أحيانا بدافع الخوف على من مجهول كانت تشعر به ولكن لا تتخيله. ونصحتنى ألا أغادر المنزل يوم 6 إبريل 2008 قائلة: «كفاية اللى عملتيه أنتى كده عملتى اللى عليكى مش لازم تنزلى كمان»، وأمام إصرارى على النزول قالت «لو اتحبستى هقول لا أنتى بنتى ولا أعرفك». وكأن قلب الأم يعلم المصير الذى ينتظرنى، وقلبى لا يرى إلا تكملة المشوار، وعقلى لا يتخيل أن يعتقل النظام مثلى لدعوة على الإضراب من خلال صفحات الفيس بوك.
حدث ما كانت تتوقعه أمى ولم أعد إلى المنزل فى ذلك اليوم، ولمدة 18 يوما أعتقد هى الأقسى على أمى طوال حياتها. وأثناء حبسى زارتنى أمى وكانت قوية جدا بعكس ما قالت لى قبل حبسى وشدت من أزرى، وقالت لى «أنتى قوية، وكل الناس فخورة بيكى، شدى حيلك»، وعلمت أنها قالت فى إحدى مداخلاتها على شاشات الإعلام آنذاك «ابنتى قالت كلمة حق أمام سلطان جائر»، وكانت تلك الكلمة بالنسبة لى بمثابة حريتى، فلم تتخل عنى أمى كما ادعت من ورا قلبها قبل حبسى، بل دعمتنى وساندتنى، بل وأصبحت فخورة بى حتى وإن تسببت لها فى ألم شديد.
حاولت أمى إبعادى عن السياسة بعد الإفراج عنى وعرفانا منى بعطائها وجلدها ابتعدت قليلا ولكن لم أستطع الاستمرار ولم تقاوم هى كثيرا، ولكن كانت تحاول بطرق أخرى أن تبعدنى عن هذا الطريق، قائلة إن ليس هناك أملا فيما أفعل، ولن تكون هناك نتيجة أو تغيير فى الوضع القائم فى مصر، مثلها مثل ملايين ممن كنا نطلق عليهم آنذاك حزب الكنبة. ولكن تغيرت أمى للنقيض بعد يوم 25 يناير وأصبحت أكثر حماسا منى وأكثر تفاؤلا وأكثر نشاطا، بل عندما كان يصيبنى الإحباط خلال 18 يوما، كانت بكلماتها القليلة عبر الهاتف وأنا فى ميدان التحرير تبث الأمل بداخلى مرة أخرى وتقول لى «هيمشى صدقينى هيمشى كملوا بس انتوا وماتيأسوش». وكنت أتعجب من ثقتها فى أننا سنسقط النظام فى أصعب لحظات إحباطنا كموقعة الجمل، أو خطابات المخلوع، ولكن صدقت أمى دوما فى إحساسها.
هذه هى أمى وأكثر بكثير، سند وظهر فى الشدائد، ليس فقط معى ولكن مع أخى وأختى والآخرين من أفراد عائلتى دوما وأبدا.
أمى هى إحساس حقيقى نابع من إيمان قوى بالله سبحانه وتعالى، قوة وجلد على التحمل، أفخر بها ما حييت. ختاما أمى هى الحياة.