أثار التفجير الإرهابى الذى نفذه تنظيم "داعش" فى مدينة منبج شمالى سوريا مؤخرًا، العديد من التساؤلات وطرح علامات استفهام عدة، ليس لأن ضحاياه أربعة جنود أمريكيين وآخرين، ولكن لأن التوقيت والهدف يطرح هذه التساؤلات.
التفجير تبنته وكالة "أعماق" الذراع الإعلامية لتنظيم "داعش" الإرهابي، وهو أول هجوم إرهابى ضد القوات الأمريكية في المدينة منذ تمركزها وتوجيه ضربات جوية ضد الإرهاب في إطار التحالف الدولى الذى تقوده الولايات المتحدة، ويضم أكثر من ستين دولة.
ومن اللافت أن يأتى التفجير فى ظل التوجه نحو سحب هذه القوات من سوريا، حيث يفترض، من جهة حسابات المصالح المبدئية، أن يتفادى التنظيم الإرهابى شن أى عمليات ضد القوات الأمريكية، بل يهدأ تكتيكيًا حتى تكمل سحب قواتها، وألا يعرقل سحب القوات كى يمكن له ادعاء الضغط عليها للانسحاب والسعى للترويج الإعلامى لمزاعمه بين أنصاره والمتعاطفين معه أيًا كان عددهم! وهذا هو منطق الأمور، ولكن يبدو أن هناك من يريد خلط الأوراق مجددًا فى المعادلة السورية، وبالتالى فإن فهم أبعاد هذا التفجير يمكن أن يسهم فيه تفكيك أبعاد المشهد الراهن فى منبج وفهم حسابات الربح والخسارة فى قرار الرئيس ترامب سحب قواته من سوريا سواء كان هذا السحب بشكل فورى أم سيتم وفق برنامج زمنى لا يعرف مداه سوى القيادة الأمريكية ذاتها.
أول معطيات هذا المشهد أن مدينة منبج الواقعة شمال حلب تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، وهى قوات بشكل أساسى من مقاتلى وحدات حماية الشعب الكردية، التى تدعمها الولايات المتحدة وتعتبرها تركيا تنظيمًا إرهابيًا.
وهناك تباين فى التقارير الإعلامية حول حدود تواجد قوات الجيش السورى فى المدينة التى تتمتع بأهمية إستراتيجية كبيرة. كما أن قوات سوريا الديمقراطية تعارض بشدة قرار سحب القوات الأمريكية رغم رسائل الطمأنة العديد التى بعثت بها واشنطن بشأن التزامها بحماية الأكراد، وتصريحات الرئيس ترامب وتهديداته القوية التى بلغت حد التهديد بتدمير الاقتصاد التركى حال اجتياح تركيا مدينة منبج واستهداف قوات سوريا الديمقراطية.
ثانى هذه المعطيات أن هناك توجها أمريكيا تركيا بإنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية بعمق 20 ميلاْ تقريبًا، وعلى خلفية المواقف التركية، هناك أطراف دولية عدة ترفض التدخل التركى فى سوريا، أو أن تكون أنقرة بديلاً للقوات الأمريكية فى هذا البلد العربي.
ثالث هذه المعطيات يرتبط بموقف الحكومة السورية التى تسعى، مدعومة من روسيا، لاستعادة سيطرتها على منبج، ومواصلة بسط السيادة الوطنية على الأراضى السورية وتطهيرها من تنظيم "داعش" الإرهابي، كما ترفض بشدة إقامة منطقة آمنة أو عازلة على الحدود السورية التركية، وتعتبر ذلك بمنزلة اعتداء على سيادة سوريا،
التفجير يستهدف إعادة خلط الأوراق، وأيًا كان الهدف والأطراف التى تقف وراءه، فإنه قد يدفع الرئيس ترامب إلى إعادة حساباته بشأن الانسحاب من سوريا، سواء بتسريع وتيرة سحب القوات تفاديًا لتعرضها لمزيد من الهجمات الانتقامية، أو باتجاه إعادة التموضع والانتشار والبقاء حتى يمكن استئصال بقايا "داعش" من الأراضى السورية، وإن كان السيناريو الأخير أقل أرجحية من الأول فى ظل اتجاه التنظيم إلى أسلوب التفجيرات الانتحارية والعمل السري، ما يجعل بقاء القوات الأمريكية بمنزلة هدف واضح لهجمات التنظيم الإرهابى مستقبلاً.
لا شك أن هذا التفجير لن يمر مرور الكرام، وقد تكون عواقبه باهظة على الأطراف المتورطة فيه، لاسيما إذا تأكدت الولايات المتحدة من تورط الميليشيات الإيرانية أو أطراف أخرى موجودة على الأراضى السورية، فيه. وفى جميع الأحوال فإنه يمنح الرئيس تراكب فرصة لإعادة دراسة قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا، ويحفظ له ماء الوجه حال قرر إبقائها، كما يوفر له فرص أخرى لاستهداف الميليشيات الإيرانية المتمركزة فى سوريا أو أى أطراف يثبت تورطها فى هذا التفجير.
الخاسر الوحيدة فى هذا التفجير، إلى جانب الولايات المتحدة بطبيعة الحال، يتمثل فى سوريا الدولة والأرض والشعب، الذى تعود به مثل هذه العمليات الإجرامية إلى الوراء، وتعمل باتجاه مضاد لفرص التسوية السياسية للأزمة والجهود التي تبذل لتحقيق الأمن والاستقرار وتسريع العمل فى خطط إعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم من أجل انهاء هذه الأزمة وما يرافقها من مظاهر معاناة إنسانية حادة فى مختلف مناطق اللجوء والنزوح السوري.