الإنسان ينسى! تلك حقيقة واقعة.. قيل إنه سُمى إنسانا لكثرة نسيانه، منذ البداية ارتبط الإنسان بالنسيان منذ لدن آدم عليه السلام «وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا»، البعض يرى ذلك النسيان نعمة، وهو حقا كذلك فى غالب الأحوال، لكنه قد يكون أحيانا نقمة وأى نقمة.. «قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى»، «طه» «فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ»، «السجدة»، وهكذا؛ تجد جُل مواضع ورود النسيان فى القرآن ترتبط بسياقات فيها نوع من الذم أو النقص الذى ينفيه المولى عن نفسه قائلا: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا»، «مريم»، ولعل نسيان المرء لسابق عمله وسالف قوله وفعله يعد من أوضح نماذج كون النسيان نقمة.
أن يغرق المرء فى حاضره وينشغل بلحظته الراهنة متغافلا عما كان منه، وما ينبغى أن يبوء به ويراجعه، وكأنه مسؤول فقط عن تلك اللحظة وقد مُحيت كل اللحظات والساعات والأيام الفائتة، فتلك والله هى عين النقمة، أن ينغمس فى مضارعه ويحمل هم مستقبله غاضا الطرف عن ماضيه المنصرمو، وكأنه خاص بشخص آخر لا يعرفه فهذه هى المصيبة، مصيبة الغفلة، أنّى له أن يراجع ويصحح ويقوم ويعدل ليغير ويتغير وقد نسى أو تناسى.. أنّى له أن يتعلم من أخطائه وأن يقيم خطواته ويحكم عليها وينقحها.. أنّى له أن يتوب بينما لم يندم قط؟ والندم توبة كما صح عن نبينا كل هذا لن يتأتى إلا بسبيل واحد أن يتذكر.
جالت فى خاطرى تلك المعانى وأنا أتأمل تلك العبارة التى تتكرر إطلالتها يوميا عبر موقع الفيس بوك الإلكترونى عبارة شاهد ذكرياتك، تلك العبارة التى تسبق ذلك الاستدعاء لكل ما كتبته أو أقررته على ذلك الموقع فى مثل هذا اليوم من كل عام مضى حينئذ تكون الفرصة سانحة لتتأمل تلك الزاوية من حياتك الماضية وتكون ببساطة قادرا على التقييم، تُراك كنت ساذجا فى تلك العبارة؟
لعلك تسرعت فى اتخاذ ذاك الموقف، ما كان ينبغى لك أن تستعمل هذا الأسلوب، أما كان يجب على التأنى والتمهل قبل إطلاق هذا الحكم وتبنى هذا الرأى؟ هكذا تتوالى عليك المراجعات حين تتوفر لك الفرصة لتراجع هذا الجزء من حياتك.
كم تمنيت أكثر من مرة أن أعود بالزمن لأنصح ذاتى القديمة وأصحح أخطاءها وأكمل نقصها وأعدل مسارها وأبين سذاجة بعض خياراتها، لكننى حينئذ أعود وأسأل نفسى وما يدريك أن ذاتك اليوم هى الأحكم من ذات الأمس؟ وهل ما أنت فيه اليوم إلا نتاج أخطاء الأمس وتجاربه وخياراته الفاشل منها والناجح على حد سواء؟ وهل ذاتك فى الغد سيرضيها كل ما تقوله وتفعله ذاتك اليوم أم أنها قد تجدها ذاتا مسكينة ساذجة تحتاج إلى التقويم والتصحيح تماما كما تجد أنت أحيانا ذات الأمس؟! إنما هى ذاتك بكل ما كان منها وما سيكون، ذات الأمس واليوم والغد هى ببساطة؛ أنت.. وعنها جميعا ستُسأل.. لماذا فوجئت إذا؟
الإجابة: لأنك ببساطة قد نسيت.. نسيت ما قدمت يداك وغفلت عنه حتى جاءت هذه الخدمة الفيسبوكية فذكرتك وأعطتك فرصة المراجعة والتقييم، وربما التصحيح، نعم لم تزل فرصة حذف ما لا يعجبك قائمة، تستطيع أيضا تعديل بعض الكلمات والحروف أو حتى إعادة كتابتها من جديد، كل ذلك متاح فى ذكرياتك على هذا الموقع ومسموح به عبر الأثير، لكن ماذا بعد الحذف والتعديل؟!
وهل اكتفيت بالحذف والإخفاء أم كانت لديك شجاعة الاعتذار؟ وماذا عن نتائج ما قلته أو كتبته.. هل تتحمل مسؤوليتها؟ ولو أنك صححت كل أخطائك الماضية من على صفحات الفيس أو حتى قمت بحذفها فهل ضمنت أنها قد حذفت من على صفحات أخرى.. صفحات كتابك.. «اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا»، «الإسراء»، فلتراجع اليوم هذا الكتاب ولتصحح ما يحتاج فيه للتصحيح بينما تشاهد.. تشاهد ذكرياتك.