صاحب الصوت العذب قادر دوما على انتزاع آهات الجماهير، آهات الإعجاب، والرغبة فى المزيد، تعلو معها الأصوات المستغيثة كمان، كمان، وشأنه شأن المطرب البارع فى انتزاع آهات مستمعيه، برع الكاتب الصحفى محمد توفيق فى كتابه "أولياء الكتابة الصالحون" فى انتزاع آهات الإعجاب، والسرور، بل والغضب أحيانا لأنه اكتفى بما كتب ولم يُزيد، فما أن تفرغ من حكاية ولى من أوليائه الصالحين، فتتمنى لو أنه أطال البقاء فى حضرة وليه الصالح أكثر، وزاد فى الحكى لنا عن عظماء الكتابة وشيوخها.
امتلك قلما عذبا فاض حبا لشيوخ الكتابة وعظمائها، واعترافا بجميل هؤلاء، فقال عنهم "لحم دماغنا من خيرهم"، ولأن أعلى الكتب قدرا عندى كتاب يقدم لى كتب، وكاتب يأخذ بيدى إلى كُتاب آخرين، فاجتمع بذلك لى الحُسنيين فى كتاب "أولياء الكتابة الصالحون"، فقدم توفيق باقة من أجمل زهور الكتابة، لتنتقى منها من تشاء، بعد أن تعرف الجميع، وتتنسم رحيق مبدعى الكتابة، والصحافة.
لم يعتمد "توفيق" على الشهرة فى اختيار أوليائه، فبعض الأولياء لا يتمعتون دائما بالقدر الكافى من الشهرة، فالبعض، وبالرغم من كراماته الكثيرة لا يعرفه إلا قليل من المريدين، فقال فارقا هائلا بين أن تكون صحفيا كبيرا، وأن تكون صحفيا مشهورا، فالشهرة ليست المعيار الأول لقيمة الصحفى، وقامته، فبعض مشاهير الصحافة ليسوا كبارا فى المهنة.
كل ولى من أولياء محمد توفيق يصلح مثل أعلى لصحفى ناشئ لم تشوه نفسه صحافة هذا الزمان حتى الأن، يصلح مثل أعلى لكاتب يشق طريقه، ولا يشغله إلا الكتابة، وقول الحقيقة، كل ولى من أوليائه يصلح أن يكون كتابا يدرسه طلاب الصحافة فى الجامعات.
أولياء دفعوا ثمن مواقفهم، والدفاع عن مبادئهم، ورغم اقتراب بعضهم من السلطة إلا إنه كان اقترابا مقننا مشروطا بالأ يُكمم أفواها، أو يُعطل عقولا عن التفكير، أو يُخرس ألسنة عن قول كلمة حق، فدفع الكثيرون من أعلام الكتابة ثمن مواقفهم وآرائهم التى آمنوا بها.
بدأ توفيق رحلته بالبحث عن سر جاذبية كتابات أحمد بهاء الدين، وكيف آمن بثورة يوليو فى بدايتها، ثم لم يمنعه هذا الإيمان من انتقاد تصرفات بعض المحسوبين عليها، فتم نقله من رئاسة تحرير أخبار اليوم إلى مجلة المصور فقال عن قرار النقل "أن نقلى من جريدة يومية هى الأوسع انتشارا إلى مجلة أسبوعية، كنقل مطرب من ميكروفون الإذاعة إلى ميكروفون فى سرادق"، ولأنه ظل دوما مدافعا عما يعتقد فلم يمنعه قربه من السادات أيضا من انتقاد قرارات الانفتاح، فصار صاحب المقولة الأشهر فى وصف الانفتاح "الانفتاح سداح مداح يا ريس".
"ماحطتش نفسك ليه فى شنطة من الشنط، وسافرت معاهم يا أستاذ" رئيس التحرير يلوم مصوره لأنه لم يستطع النفاذ بالحيلة إلى طائرة رجل الأعمال المكلف بتغطية رحلته إلى أسوان، متوعدا مصوره بالفشل، والثبور، وعظائم الأمور لتقصيره.
من منا لا يتذكر هذا المشهد من فيلم "يوم من عمرى" لمحمود المليجى -أعظم رئيس تحرير- فى السينما المصرية هل تخيلت يوما أن هذا الدور كان تجسيدا سينمائيا لـ"على أمين" نعم على أمين الذى عرفه عبدالحليم فى السهرات الخاصة هادئا وديعا فقرر بناء على هذه الطيبة أن يسند دور رئيس التحرير فى فيلمه إلى الفنان حسين رياض، ولكن انقلبت الآية بعد أن ذهب "حليم" إلى أخبار اليوم، وقابل أحمد رجب، وطلب منه أن يرى عمليا كيف يتعامل معه "على أمين" رئيس تحرير أخبار اليوم، وحدث ما أراد عبد الحليم، وناوش "رجب" على أمين، فرأى "حليم" الجانب الآخر من على أمين رئيس التحرير فكلم "المليجى" ليقوم بدور رئيس التحرير بدلا من حسين رياض، وشتان بينهما.
"العصابة التى تحكم مصر".. المقال الذى سجن صاحبه الكبير صلاح حافظ كما وصفه "توفيق" فقال عنه "لا يجوز أن لا تعرفه، ولا يمكن أن تتجاوزه، فهو من القلائل الذين جعلوا للصحف القومية لسانا للشعب، وليست بوقا للنظام، ومحمد عودة الصحفى الذى دخل السجن فى كل العصور من الملك فاروق إلى السادات مرورا بعبد الناصر، ولولا أنه جاوز الستين مع قدوم مبارك للحكم لحل ضيفا على سجونه.
ومن أكثر حكايات الكتاب التى تمنيت أن تطول أكثر حكاية كامل الشناوى الذى أبدع الكاتب فى تلخيص هذا العملاق فنا، وحجما قائلا "امتلك عمنا كامل الشناوى موهبة أثقل من الهرم الأكبر، وإحساسا أعلى من برج الجزيرة، ومعانى أعمق من البحر الأحمر، وعذوبة أعذب من ماء النهر، وخفة ظل يستظل بها الجميع.
كيف ساهم عقاب إحسان عبد القدوس أنيس منصور لتأخر الأخير فى إرسال مقاله بالصفحة الأخيرة لأخبار اليوم فظهر لنا نجم الصحافة المبدع الذى قال عنه محمد توفيق "محمود عوض .. لا يعوض" وقد صدق.
ستجد أسماء لا تعرف بعضها، أو لا تعرف عنها الكثير، وهذا فضل محمود للكتاب أن يعرفنا بمن لا نعرف، ويستحقون أن نعرفهم، ونتعلم من تجاربهم.
الأبنودى، وأمل دنقل، ومحمود درويش، وكمال الملاخ، وجميل عارف، ومحمد عودة، وحسن شاه، وسناء البيسى، وفتحى غانم، وأحمد بهجهت، ومحمد عفيفى، وأحمد رجب، وجلال عامر، وجليل البندارى الذى قالت فيه تحية كاريوكا "جليل الأدب، وإحنا بندارى عليه" فى إشارة إلى طول لسانه الذى تسبب فى قسم فريد شوقى أن يضربه لأن البندارى كتب أن هدى سلطان تضرب وحش الشاشة بالأطباق!
"لقد كنت صحفيا، وسأبقى صحفيا، وسأموت صحفيا، وسأبعث يوم القيامة فى كشف نقابة الصحفيين."
هكذا علق محمود السعدنى على قرار فصله من روز اليوسف، وتعيينه فى شركة "المقالون العرب" بسبب نكت قالها لأحد أصدقائه عن السادات، كانت الصحافة "صاحبة الجلالة" الشاغل الأكبر، ومصدر الفخر، أمثال هؤلاء لا يستحقون أن يكونوا أولياء الكتابة فقط، بل أنبيائها.