مبادرة تبدو بسيطة فى ظاهرها، لكنها عميقة الأثر حال تفهمها والعمل بها، إنها مبادرة «أسبوع الوطن» التى أطلقها الدكتور أسامة الأزهرى مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية، وملخصها أن تخصص المساجد والكنائس وكل المؤسسات أسبوعا تدور فيه خطبها وأحاديثها عن قيمة الوطن، حتى يشيع فى الدنيا كلها شعور رفيع من احترام الأوطان وتعزيز قيمتها فى النفوس والوفاء لها باعتبارها منبع الولاء والانتماء.
وهذه المبادرة التى تبدو بسيطة، شديدة الأهمية، لأنها تواجه مشروعا استعماريا شرسا استهدف على مدى سنوات، خلخلة قيمة الوطن فى نفوس أبناء الأقطار العربية الإسلامية، حتى يسهل استهدافها وتدميرها بالحروب الأهلية والجماعات المتطرفة ونيران الإرهاب، ورأينا خلال السنوات الثمانى الماضية رأى العين كيف تحالف المشروع الاستعمارى الغربى مع الحركات والجماعات الأصولية المتطرفة لهدم الأوطان المستقرة، مرة بزعم إقامة الخلافة الإسلامية، الوهم الذى تروج له أجهزة الاستخبارات الغربية وتزرعه فى عقول مجرمى الجماعات المتطرفة حتى يرفعوا السلاح ضد مؤسسات الدولة المستقرة ويضعفوها، ومرة ثانية من خلال فصل مكونات المجتمعات المتناغمة من إثنيات وعرقيات وزرع الشقاق بينها لإشعال حروب وفتن لا تنتهى متى قامت إلا بتقويض لحمة المجتمعات وهدم الدول.
ولعلكم تذكرون كيف كانت الخطة الأمريكية الخاصة بفك الارتباط بالمنطقة العربية ماضية فى طريقها وبسرعة كبيرة، ثورات فى كل مكان وكأنها النار فى بناء متهالك من الخشب، وإضعاف للدول المتماسكة وتفتيتها إلى عناصرها المكونة وصناعة الحروب والنزاعات بين تلك العناصر، وتدمير مصادر الطاقة أو استنزافها فى التجارة السوداء خارج الأسواق العالمية، كما حدث ويحدث فى البترول الليبى والعراقى والسورى، وكلها تحت شعارات براقة من الخارج ظاهرها الثورة وباطنها خبيث واستعمارى تدميرى، حتى جاءت لحظة 30 يونيو فى مصر وهى لحظة كانت فاصلة يمكن الحديث عما قبلها وعما بعدها، فهى لم تكن مجرد ثورة شعبية ضد استبداد الإخوان المذهولين بسطوة الحكم، ولم تكن مجرد وقفة مضيئة من وقفات الجيش المصرى الوطنى فى مجابهة الأعداء، وإنما كانت كسرا فى مسار مشروع استعمارى كبير وراءه قوى كبرى على رأسها الولايات المتحدة، ومنفذون كبار فى مقدمتهم فرنسا وتركيا.
لم يكن يبدو لدى مخططى أو منفذى هذا المشروع الاستعمارى الذى يسعى لهدم وإعادة تقسيم واستنزاف المنطقة العربية، أن أحدا أو شعبا أو أى إرادة كانت، يمكن أن يعطل مسار المشروع، الذى بدأ بقصف مركز على العقول وتسويق نموذج الثورة الأوكرانية البراقة وكأننا فى فيلم «V for vendetta»، فالفوضى أو الثورة التى تجر خلفها الميليشيات والأسلحة والجماعات الإرهابية، وتحطم البلاد بلدا بعد بلد جنوب المتوسط، والحروب الأهلية والمذهبية تطحن الشعوب المستهدفة والدمار الذى يعنى عقودا كبيرا للشركات الغربية يتحقق بانتظام، ويتراجع الوطن ويتمزق ويداس بالأحذية فى ظل هرولة الأفراد للنجاة بأرواحهم من عدوان وفظائع الهمج الجدد الذين يتحدثون بلسان الثورة أو الفوضى وما هم إلا عرائس ماريونت فى أيدى أجهزة استخبارات غربية.
ومع ثبات ثورة 30 يونيو فى وجه المؤامرات والحصار الاقتصادى ومحاولات التركيع عن طريق حملات الإعلام الغربى والمنظمات الحقوقية وثيقة الصلة بدوائر المخابرات، ومع تطوير الجهد المصرى والعربى من مواجهة محاولات التفتيت ونشر الحروب الأهلية والفوضى فى الدول العربية، إلى صناعة تحالف عربى سياسى وعسكرى يستطيع صد أى عدوان وإفشال محاولات إعادة تقسيم المنطقة، بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون فى تنفيذ المخطط الاحتياطى الخاص بالمنطقة العربية.
يقوم المخطط الأمريكى الاحتياطى على تغيير فى طبيعة الصراع داخل المنطقة العربية، وبدلا من تقويض الأنظمة القائمة من الداخل عن طريق حروب الجيل الرابع وصناعة الفوضى والمظاهرات داخل البلدان العربية، ثم تطوير المظاهرات إلى اشتباكات وصراعات مسلحة كما هو الحال فى سوريا وليبيا واليمن، حيث يتم تصميم حروب إقليمية على أساس مذهبى، وإطلاق المارد الإيرانى ليشكل تهديدا لدول المنطقة وداعما للأقليات الشيعية على طريقة العراق.
لكن المصالح العربية العليا تقتضى التنسيق مع الأقطاب الأخرى فى العالم، وفى مقدمتها روسيا والصين، معلوماتيًا وعسكريًا أيضًا لإنجاز الهدف العربى الأول، وهو إيقاف عمليات التدمير المنظمة للدول العربية، والوصول إلى صيغة سياسية نستعيد بها مفهوم الدولة المتماسكة القادرة على الدفاع عن نفسها، بدلا من مفهوم الطوائف والدويلات المتناحرة الذى يتم تسويقه حاليًا، مع العمل على مواجهة تسويق الطوائف والدويلات والمناطق العازلة بمبادرات على غرار مبادرة أسبوع الوطن التى أطلقها الدكتور أسامة الأزهرى، وأدعوه لأن يعدل عنوانها لتكون «عام الوطن».