أنت الآن فى القاهرة الكبرى، لكن ربما لا تعرف أن هذه المدينة الكبيرة العظيمة لم تكن أبدا «مدينة» فحسب، فهى عبارة عن حصيلة حضارية جامعة لكل صنوف الحضارات التى مرت على مصر منذ نشأتها الأولى، وفى اعتقادى أنه لو تبنت الدولة مشروعا لإعادة البهاء لشوارع القاهرة وأحيائها كما دعوت فى مقالاتى السابقة، فلا بد من البحث عن هوية كل حى فى القاهرة، واستثمار هذه الهوية الحضارية فى تصميم تيمة فنية جامعة لها، وفى الحقيقة أيضا فإن هذه الدعوة نادى بها الكثيرون من قبل، فقد ناديت بها فى العديد من المقالات السابقة، ومنها على سبيل المثال مقال «فى المطرية فى السيدة عيشة»، كما نادى بها الفنان الكبير فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق فى العديد من الحوارات واللقاءات ومنها حوار معى شخصيا، وأعتقد أنه لو تبنت الدولة هذا المشروع، فلن يبخل أحد بإسهامه ولن يتوانى أحد عن المشاركة.
المعادى على سبيل المثال كانت مركزا مهما لحضارة ما قبل التاريخ، والمطرية وعين شمس كانتا مهبطا لحضارة «أون» القديمة التى شهدت أول نظرية فى خلق الكون وأول جامعة فى الكون، وأول دار ومكتبة لتربية الأطفال، أما مسطرد فبجانب حضورها فى التاريخ الفرعونى، فقد مثلت محطة مهمة من محطات رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، بجانب «المطرية» التى مازالت تحتضن «شجرة مريم» وعلى امتداد «المطرية» تنتشر فى «الزيتون» ومصر الجديدة، منشآت العصر الملكى المهيبة، من فيلات وقصور وعمارات فى غاية الروعة والإتقان والجمال، وإذا مررنا بـ«صلاح سالم» ندخل فى عالم سحرى من فيض الحضارة الإسلامية السامقة، حيث تمتزج جميع مفردات الحضارة الإسلامية بجميع عصورها لنعيش ما بين الأزهر والحسين والقلعة والخليفة والسيدة زينب وما حولها، وكأننا فى حلم واقعى، حتى إذا ما وصلنا إلى «مصر القديمة» ندخل فى موجة ثانية من التجانس الحضارى، لنرى كيف عاش جامع عمرو مع الكنيسة المعلقة مع معبد بن عزار فى زمان واحد ومكان واحد، وكيف كانت هذه المنطقى ساحة من ساحات القتال منذ العصر الفرعونى وحتى حصن بابليون، أما فى المنيل، فبجانب طابعها «الملكى» المميز، لكنها أيضا تحتوى على العديد من الآثار الإسلامية الخلابة، وأشهرها الأثر الفريد «مقياس النيل» وقصر الأمير محمد على، حتى نصل إلى «وسط البلد» وعابدين لندخل مرة أخرى فى العصر الملكى، وإذا ما عبرنا النيل وصولا إلى الدقى «الملكية» والجيزة «الفرعونية» حتى نصل إلى درة حضارات العالم فى منطقة الأهرام.
يضيق المقام هنا عن ذكر كل ما بكل حى من أحياء مصر من هوية مميزة، لكنى فى هذا الاستعراض حرصت على إبراز مدى التنوع الحضارى الذى تتميز به «القاهرة الكبرى» بداية من قبل التاريخ وقبل الأسرات وبناة الأهرام ومرورا بالحضارة القبطية والإسلامية والأسرة العلوية، ولو تبنت الدولة حقا مشروعا لإعادة البهاء فى أحيائها سنحافظ على «شرف مصر» على حد تعبير الفنان فاروق حسنى.
نشر هذا المقال فى أغسطس الماضى وأعيد نشره بمناسبة مشروع تجديد عمائر القاهرة الذى أمر به الرئيس عبد الفتاح السيسى.