ماكرون ولعبة شد الأطراف فى القاهرة

تابعت عن كثب سير وقائع المؤتمر الصحفى المؤتمر الصحفى العالمى الذى عقده الرئيس السيسى فى ختام لقائه مع نظيره الفرنسى إيمانويل ماكرون، وأحب أن أشيد أولا بالأسئلة القوية من جانب عدد من الإعلاميين المصريين الذى حضروا بقصر الاتحادية، وكان أول هذه الأسئلة عن حقوق الإنسان فى مظاهرات "السترات الصفراء" بفرنسا، وما إذا كانت الشرطة الفرنسية ومختلف أجهزة الدولة قد التزمت بصيانة حقوق الإنسان، كما وردت فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان. وأدهشتنى إجابة ماكرون على الكاتب الصحفى خالد ميرى، رئيس تحرير الأخبار، حول السؤال الأول قائلا: "الفرنسيون يعبرون عن آرائهم وأحيانا يقولون آراء ضد الدولة وضد الرئيس والحكومة، وأنا آسف لذلك لكنها الديمقراطية، وبالطبع أنتم رأيتم صور الاحتجاجات فى الشوارع، وهى تتضمن عدة أنواع من الغضب إذا صح القول، وخلال هذه التظاهرات لاحظتم أنها لم تمنع، رغم دخول عدد من المتطرفين فى صفوف المتظاهرين دخلوا وحطموا واعتدوا على المنشآت العامة والممتلكات الخاصة، وخربوا المتاجر وارتكبوا أعمال عنف ضد الشرطة، وبالتالى تم توقيفهم لأنهم دمروا وخربوا واعتدوا على رجال الشرطة، وليس لأنهم عبروا عن آرائهم، وحسب القانون سوف يعرضون على المحكمة، بعضهم أطلق سراحهم وينتظرون الإجراءات القضائية والبعض الآخر ما زال قيد المحاكمة وفق القانون". وماكرون كما يبدو من إجابته يلتف حول الحقائق الثابتة التى عاشها الشعب الفرنسى، وشاهدناها نحن بأعيننا على شاشات التليفزيون، ولذلك واجه انتقادات لاذعة من جانب وسائل الإعلام الفرنسية التى انهالت على إشادة ماكرون بأداء رجال الشرطة خلال احتجاجات السترات الصفراء، وتأكيده بأن 11 شخصا توفوا منذ بدء الاحتجاجات، نافيا مسئولية رجال الأمن عن أى حالة منهما، فقد نشرت فى هذا الصدد "فرانس سوار" موضوعا بعنوان "لا وفاة بين السترات الصفراء بسبب الشرطة.. هل نسى ماكرون "زينب رضوان"؟، مشيرة إلى تصريحات ماكرون، وإشادته برجال الشرطة أثناء تواجده فى مصر، موضحة أن الرئيس يبدو أنه نسى زينب رضوان، الضحية الرابعة التى توفت نتيجة الإصابة بقنبلة غاز فى وجهها بعد إلقاء القنبلة داخل شرفة منزلها بمارسيليا فى الأول من ديسمبر. ومن جانبها سلطت صحيفة "لوباريزان" الضوء على التصريح ذاته، منتقدة الإشادة بمهنية أداء رجال الشرطة، فى ظل استخدامهم للطلقات الدفاعية المثيرة للجدل والتى أصابت كثير من المتظاهرين، وأشارت إلى تعرض أحد متظاهرى "السترات الصفراء" لإصابة خطيرة فى عينه خلال احتجاجات السبت الماضى، ونفت الداخلية إصابته بإحدى الطلقات الدفاعية المثيرة للجدل، ولفتت الصحيفة إلى دفاع رئيس جهاز الأمن الداخلى الفرنسى "لوران نونيز" عن استخدام رجاله للأسلحة، حيث أكد أن قوات الأمن ستواصل استخدام طلقات فلاش بول أو الطلقات الدفاعية ضد المتظاهرين، ومن جانبهم أيضا تفاعل عدد من نشطاء السترات الصفراء على مواقع التواصل الاجتماعى مع تصريحات ماكرون، منتقدين تبرئته لرجال الشرطة، وتساءل كثيرون عن "زينب"، صاحبة الثمانين عاما، المتوفية جراء قنبلة غاز، وإصابة جيروم رودريجز، بجرح خطير فى عينه خلال الاحتجاجات الأخيرة. والواقع أن ما يهمنا فى هذا الصدد ليس انتقادات الصحف الفرنسية لكيفية تعامل ماكرون مع أزمته الداخلية أو مدى صدقه أو كذبه، ولكن يهمنا هنا نسيانه هموم بلده وتعليق الرئيس الفرنسى على حالة حقوق الإنسان فى مصر، أثناء زيارته الأخيرة الى القاهرة، موجها سهام النقد الى تلك الحالة دون أن يعى الفروقات الجوهرية بين الواقع المصرى والواقع الأوروبى، وبخاصة الفرنسى من حيث الاضطراب الحادث فى منطقة الشرق الأوسط، ومحاولات إقامة دولة دينية مدعومة من الغرب وأمريكا ورفض المصريين لها، إضافة الى جوانب حقوقية أخرى يحتاجها الشعب المصرى أشد الاحتياج كالحق فى التعليم والصحة والعمل، وهو ما أوضحه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى كلمته. ويظل المثير للشك والريبة فى شخصية ماكرون ما قبل وصوله للقاهرة بساعات، حيث أكد أن حقوق الإنسان بمصر يُنظر إليها بشكل متزايد على أنها فى وضع أسوأ مما كانت عليه بعهد الرئيس السابق حسنى مبارك، الذى أطاحت به احتجاجات شعبية فى 2011، هذا وأبلغ ماكرون الصحفيين على هامش زيارة لمصر رسالة خبيثة فى جوهرها حين قال: "أعتقد أن المثقفين والمجتمع المدنى فى مصر يعتبرون السياسات الحالية أشد صرامة منها فى عهد مبارك"، مضيفا: "لا يمكننى أن أفهم كيف يمكنك التظاهر بضمان الاستقرار على المدى الطويل فى هذا البلد، الذى كان فى لب انتفاضات الربيع العربى وتذوق طعم الحرية، وتتصور أن بإمكانك الاستمرار فى التشديد بما يتجاوز المقبول أو المبرر لأسباب أمنية!"، وأضاف: "أعتقد أن ذلك أمر متناقض ويضر مصر نفسها". والحقيقة أن ماكرون هو نفسه الذى يناقض أقواله، ففى نفس المؤتمر الصحفى، قال: "إن مصر وفرنسا قد تعرضتا للعنف والإرهاب"، لافتًا إلى أن أمن واستقرار مصر يمثل استراتيجية لفرنسا، وأكد أن محاربة الإرهاب من أهم أولويات الدولتين المشتركة، وطالب الرئيس الفرنسى من المستثمرين وأصحاب الشركات الفرنسية بأن يتجهون للاستثمار فى مصر، فلديها 100 مليون نسمة، تشكل قوى عاملة كبيرة، تشجع على الصناعة والعطاء، أشار إلى أنه تم التوقيع على العديد من المشاريع المشتركة بين البلدين، أهمها إقامة مصنع تصنيع سيارات كهربائية بالكامل، لافتًا إلى أن العاصمة الإدارية الجديدة، فرصة مهمة للتعاون الاقتصادى بين البلدين، وألمح إلى أنه يطمح فى تعزيز تعليم اللغة الفرنسية فى مصر، من خلال المدارس الفرنسية بمصر، متقدمًا بالشكر للرئيس عبد الفتاح السيسى، على إتاحته تلك الفرصة بتدريسها كلغة ثانية فى المدارس. الرئيس السيسى من جانبه، وردا على تلك المهاترات، قالها واضحة وصريحة فى وجه ماكرون فى أثناء المؤتمر الصحفى: "لسنا كأوروبا أو أمريكا، الاختلاف بين الدول وبعضها أمر طبيعى، العالم كله لا يسير على نهج واحد، التنوع الإنسانى أمر طبيعى وسيستمر ومحاولة تغييره إلى مسار واحد غير جيدة"، وأضاف: "عندما نتحدث عن مصر فهناك 100 مليون شخص، استقرارهم مهم جداً، نتحدث عن منطقة مضطربة ونحن جزء منها، هناك مشروع نتصدى له لإقامة دولة دينية فى مصر"، وأكد السيسى بعقلانيته المهودة أن "مصر لن تقوم بالمدونين، ستقوم بالعمل والجهد والمثابرة، المدونون يتحدثون بلغة ثانية غير الواقع الذى نعيشه، لا نريد اختزال حقوق الإنسان فى مصر فى آراء مدونين، هدم الدولة أمر ثان". السيسى قالها مؤكدا بجسارة المقاتل الذى يحمل على عاتقه مسئولية دولها قوامها أكثر من 100 مليون إنسان: "لا نريد إعادة ما حدث سابقاً فى المنطقة، عندما تعصف بالدولة المصرية حرب أهلية ماذا كانت ستفعل الدول الأوربية؟!، وبعيدا عن المزايدة مضى السيسى ليقول: "لا أقبل أن استمر فى منصبى إذا لم تكن هناك إرادة مصرية، ولو رفضنى الرأى العام فسأتخلى عن موقعى فوراً". وعودة لجذور المشكلة التى تتعلق بتناقضات ماكرون نفسه، فسنجد أن التصريحات التى قالها الرئيس الفرنسى قبل عام، فى أثناء زيارة السيسى باريس بشأن ملف حقوق الإنسان، أثارت موجة كبيرة من الغضب ضد الرئيس الفرنسى فى الداخل المصرى، واعتبر بعض المنظمات الحقوقية المصرية أن فرنسا باعت مبادئها بالصفقات التى كان من المتوقع أن تتم مناقشتها بين الجانبين فى أثناء الزيارة، إذ قال ماكرون إنه لن يعطى الرئيس المصرى محاضرات بشأن حقوق الإنسان، وإن القاهرة أعلم بشؤونها فى هذا الملف. لكنه فى الزيارة الأخيرة حاول ماكرون أن يكسب ود هذه المنظمات، خاصة أن العلاقة مع القاهرة فيها الكثير من الفتور منذ تولى الرئيس الفرنسى منصبه، فلا طائل من سكوته عن الملف الحساس لدى السيسى، والذى دوماً ما ترى فرنسا أنها فيه قلعة الحريات وضمانة حقوق الإنسان بأوروبا، أيضاً ماكرون كان لديه رغبة حقيقية فى استمالة هذه المنظمات، فى ظل تصاعد المد اليمينى بأوروبا المناهض للاجئين وملفات حقوق الإنسان، ولاننسى أنه منذ أكثر من شهر، يتعرض الرئيس الفرنسى لضغط داخلى كبير، بسبب التظاهرات التى لم تتوقف لما يعرف بـ "السترات الصفراء"، بسبب ارتفاع أسعار المحروقات وزيادة البطالة. كل ذلك تسبب فى توتر كبير بالشارع الفرنسى، خلفه اقتحام محلات تجارية فى باريس وسرقة ما بها، فى الوقت نفسه تتصاعد لهجة المدافعين عن حقوق الإنسان فى فرنسا تجاه تعامل الشرطة الفرنسية مع هذه الأحداث، فكأنما أراد "ماكرون" أن يعيد تقديم نفسه من جديد للداخل من القاهرة، بسبب الملف الحقوقى وأيضاً لممارسة مزيد من الضغط على الحكومة المصرية من أجل عقد صفقات جديدة مع القاهرة ترضى الذين ينظرون إلى ماكرون على أنه وراء تدهور الأوضاع الاقتصادية فى البلاد. ومعروف أنه عند وصول الرئيسى السيسى إلى السلطة فى عام 2014 توطدت العلاقات الفرنسية - المصرية، وتعامل الرئيس الفرنسى السابق، فرانسوا هولاند، بطريقة هادئة مع ملف الحقوق، وتم التوقيع على صفقات دفاع، وضمن ذلك بيع 24 طائرة مقاتلة رافال، وفرقاطة متعددة المهام وسفينتين حربيتين من طراز "ميسترال"، وهى صفقات بلغت قيمتها نحو 6 مليارات يورو، لكن منذ هذا التاريخ لم تقدم القاهرة أى جديد فى الجانب الاقتصادى مع فرنسا، فمنذ أن وصل "ماكرون" إلى السلطة، فتر النشاط التجارى، ولم يتحسن الفائض التجارى لفرنسا مع مصر فى ثلاث سنوات، مستقراً عند نحو مليار يورو، وتمكنت ألمانيا ودول أخرى من الحصول على عقود مدنية كبيرة. أيضا القاهرة علقت تعهداتها بشراء 12 مقاتلة رافال أخرى مدة عامين تقريباً، بسبب الديون التى حصلت عليها مصر من صندوق النقد الدولى، لكن الفرنسيين يحاولون أن تكون هذه التصريحات الشديدة من "ماكرون" قد تدفع القيادة المصرية إلى الإقدام على عودة هذه التعهدات لسابق عهدها حتى لو بتمويل خليجى، كما حدث من قبل فى عدد من الصفقات التى وقعتها القاهرة، ومن هنا تأتى زيارة "ماكرون" للقاهرة فى مرحلة هامة على مستوى الداخل الفرنسى، وظنى أنه من خلال هذه الزيارة يحاول "ماكرون" فتح آفاق جديدة مع دول ذات تأثير فى المتوسط وواعدة اقتصاديا كمصر بهدف تعزيز السياسات الاقتصادية الفرنسية، وأيضا تعزيز التواجد والامتداد الفرنسى فى مناطق التأثير. كما يجدر بالذكر هنا أن مصر هى بوابة المنطقة وأفريقيا ونعلم مدى الاهتمام الفرنسى بالمنطقة وبالقارة الأفريقية والدول الناطقة بالفرنسية فى أفريقيا، ومن ثم فإن الزيارة تأتى فى ظل رئاسة مصر للاتحاد الأفريقى، كل هذه الأمور تثقل هذه الزيارة وتدفع "ماكرون" لوضع كافة الرؤى التى يمكن من خلالها التنسيق مع القاهرة فى مختلف الملفات، خاصة أن وزن مصر فى المنطقة يدفع دولا كثيرة لدعم علاقاتها معها. وأخيرا: معلوم أن مصر فى وضع يجعلها جاذبة للدول الكبرى التى تسعى لتطوير علاقاتها بالمنطقة، ولاننسى أن فرنسا تجمعها هموم مشتركة مع مصر منها الأزمة فى ليبيا والأزمة السورية، وباقى أزمات المنطقة، والتى يمكن لمصر أن تلعب فيها دورا رئيسيا يتفق مع التوجهات الرئيسية لفرنسا، وتلك هى معضلة العلاقات المصرية الفرنسية، حيث تمارس الأخيرة لعبة شد الأطراف إلى ناحيتها، كما ظهر من خلال مروغات "ماكرون" واللعب بتصريحاته الخبيثة التى فقدت أثرها تماما فى الجولة الأخيرة من المباحثات فى القاهرة.



الاكثر مشاهده

"لمار" تصدر منتجاتها الى 28 دولة

شركة » كود للتطوير» تطرح «North Code» أول مشروعاتها في الساحل الشمالى باستثمارات 2 مليار جنيه

الرئيس السيسى يهنئ نادى الزمالك على كأس الكونفدرالية.. ويؤكد: أداء مميز وجهود رائعة

رئيس وزراء اليونان يستقبل الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي محمد العيسى

جامعة "مالايا" تمنح د.العيسى درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم السياسية

الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يدشّن "مجلس علماء آسْيان"

;