هناك الكثير من التراكمات على مدى عقود، أدت إلى وجود واقع معقد، ويتطلب علاجا جذريا، بشكل ينهى المرض والعرض معا، ولا يتعامل فقط مع الأعراض، نقول هذا بمناسبة ما يثار من جدل حول العاصمة الإدارية الجديدة وقرب انتقال الحكومة بمؤسساتها إلى العاصمة بشكل يخفف العبء على القاهرة، ويعيد لها وجهها كعاصمة تليق بمصر، وقد أعلن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى أن الانتقال إلى العاصمة الإدارية يشمل نقل كل الأعمال بالجهاز الإدارى للدولة، وتخفيف العبء عن القاهرة التى سوف تظل العاصمة، وأن هناك اتجاها لتطوير قلب القاهرة وتحديثه واستمرار العمل بشكل كبير لإعادة الوجه الحضارى للعاصمة.
هذا الكلام من رئيس الوزراء يحسم جدلا استمر لفترة، حيث افترض البعض أن الانتقال للعاصمة الإدارية يعنى التخلى عن القاهرة، وهو أمر يناقض العقل والمنطق، لأن القاهرة ليست مجرد عاصمة وإنما هى اختصار لتاريخ ممتد طوال قرون، وتعبير عن وجود مصر، وهذا التاريخ يحتاج للصيانة والاحترام وإزالة آثار الفوضى والاعتداء التى تظهر على وجه القاهرة، بسبب عشرات السنين من الإهمال والتهاون، وإذا كانت الدولة تؤكد الاستمرار فى تحديث وتطوير القاهرة وتغيير التشريعات بالشكل الذى يحمى الأرض الزراعية، وينهى الإشغالات والمخالفات، فإن هذه الخطوات، تتطلب سياسات موزاية تقضى على الأسباب التى أدت فى السابق لنمو واتساع العشوائيات على أطراف المدن وفى قلبها، بل وحولت الأحياء السكنية هى الأخرى إلى ما يشبه العشوائيات، والسبب الرئيسى هو غياب سياسات واضحة للتخطيط والإسكان، تجعل توفير مسكن مناسب أمرا سهلا.
والواقع أن حماية القاهرة وتطويرها لا تعنى فقط وسط البلد أو المنطقة التاريخية لكنها تعنى كل أحياء القاهرة الكبرى، من خلال إعادة الانضباط والقانون وإزالة الاعتداءات والإشغالات والمخالفات، من الأحياء القديمة وأيضا من الأحياء المزدحمة، وهو أمر ليس سهلا، لكنه ليس مستحيلا، ويحتاج إلى تفكير علمى وهندسى، فلا يمكن الحديث عن تطوير القاهرة من دون استعادة الوضع الإنسانى فى الأحياء المزدحمة، مثل دار السلام وحدائق المعادى والمطرية وعين شمس، بل والمعادى الزمالك، بل وأيضا فى المحافظات المختلفة، بما يعيد لمصر وجها تفتقده خلال عقود بسبب العشوائية والتهاون.
وهذا بالطبع يستلزم أولا إعادة النظر فى عمل ووظائف رؤساء الأحياء والمدن، والإسراع فى إصدار قانون الإدارة المحلية، بالشكل الذى يضمن وجود مجالس شعبية للأحياء والمدن والقرى تنظم عمل المحليات وتواجه المخالفات وتفرض القانون، حيث إن الإدارة الحديثة فى الدول المتقدمة تديرها البلديات والمجالس المنتخبة بشكل يمنحها بعض الاستقلال ويخفف من تصعيد المشكلات للعاصمة، بل إن هذا يساهم بشكل مباشر فى تسهيل عمل البرلمان، ويقلل من الضغوط على النواب والمجلس.
ثانياً: النقطة الأخرى المهمة فى سياق إعادة البناء، هو توفير مساكن مناسبة للمواطنين، ومع الأخذ فى الاعتبار أهمية برامج تنظيم الأسرة، فإن حماية الأراضى الزراعية تحتم وجود بدائل مناسبة للسكن، والتوسع العمرانى وتوزيع عادل المناطق الصناعية بشكل يرفع عن المراكز السكنية اعباء التلوث وأخطار التوسع العشوائى، وإذا كانت الدولة تبذل جهدا ضخما وتنفق مليارات لنقل سكان العشوائيات إلى مناطق إنسانية فإن هذه العشوائيات نشأت بسبب نظام إسكان وتعمير غير عادل، أدى إلى التوسع فى الإسكان الفاخر على حساب الإسكان المتوسط والمحدود، الأمر الذى خلق وضعا مختلا، تتركز العقارات الفارغة فى جهة لا تجد من يسكنها ويتكدس الملايين فى أحياء ضيقة ومزدحمة تضج بساكنيها وتفشل مرافقها فى احتمال الضغط.
هذا الوضع المختل ترسخ خلال عقود، وما تزال آثاره مستمرة وواضحة، ولعل إحصائيات الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء تشرح بشكل واضح حجم الخلل فى الإسكان بمصر، وتكشف آخر إحصائية للتعداد عن 12.5 مليون وحدة سكنية مغلقة فى مصر من بين 45 مليون وحدة، تتجاوز الربع، منها أقل من مليون وحدة بسبب وجود الأسرة بالخارج، والباقى غير مستغل، وهذا يعنى بشكل واضح وجود خلل ما لأسباب متعددة، حيث تعد هذه العقارات أموالا معطلة.
وبالتالى فإن ارتفاع أسعار العقارات فى كثير من الأحيان يبدو بدون منطق، والكثير من المضاربين العقاريين، ساهموا وما زالوا فى تضخم أسعار العقارات، بشكل يجعلها فقط ممكنة للأثرياء، بينما يفقتد أعضاء الطبقات الوسطى لفرصة الحصول على مسكن مناسب، وهو ما يفتح الباب للتكدس والعشوائية، وإذا كان رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولى يتحدث عن استمرار القاهرة عاصمة لمصر وتطويرها، حتى بعد انتقال المؤسسات الحكومية إلى العاصمة الإدارية، هناك تساؤلات عن فرص العاملين فى هذه المؤسسات للحصول على مساكن مناسبة فى دائرة العاصمة الإدارية، حتى يمكن تخفيف الضغط على المواصلات، ومع الأخذ فى الاعتبار أن هناك خططا لقطار كهربائى وتوسيع شبكات المترو والمواصلات العامة، للتجمعات والمدن والأحياء الجديدة فإن الأمر بحاجة إلى تفكير ومبادرات تضع فى اعتبارها الكثير من التفاصيل المهمة فيما يتعلق بالسكن والنقل، وهى أمور لا نظن أنها تغيب عمن خططوا لهذه المشروعات الكبرى.