تغييب العقل أو الوعى ليس فقط بنشر فكر متطرف، سواء كان دينيا أو سياسيا أو بنشر مظاهر الانحلال والفساد، ولكن هناك أيضا وسيلة تعتبر الأهم وهى نشر الإدمان، والمستهدف هنا الوطن بأكمله وليس الشباب فقط، فعندما يصل حجم تجارة المخدرات فى مصر إلى 18.2 مليار جنيه سنويا منها 15.7 مليار «خشخاش وقنب» و2.4 مليار مخدرات طبية و900 مليون تخليقية، هنا يبدو واضحا التأثير الاقتصادى المباشر فى دولة تعيد بناء نفسها بعد فترات من الانهيار والفوضى، وفى الوقت الذى تسعى فيه الدولة إلى الاقتراض لاستكمال مشروعاتها القومية، تأتى تجارة المخدرات لتلتهم ما يعادل شريحة من شرائح قرض صندوق النقد الدولى لتعادل حوالى %70 من دخل قناة السويس.
وفى الوقت الذى تسعى فيه الدولة لتحقيق مراكز متقدمة فى التعليم أو الصحة، تفاجئنا مؤسسة ألمانية عبر مؤشر الأعشاب weedimdex 86 بأن القاهرة قد حققت المركز الخامس ضمن المدن الأكثر تعاطيا للحشيش. أحياء كاملة ومناطق معروفة لأجهزة الأمن وقرى مثل الجعافرة وكوم السمن ومنطقة السحر والجمال مازالت تمثل أحد أهم مصادر المخدرات فى مصر، والإدارة العامة لمكافحة المخدرات التى أنشئت عام 1992 مازالت تواجه حربا شرسة مع تجارة المخدرات، وذهب العديد من ضباطها وأفرادها ضحايا فى هذه الحرب التى مازالت مستمرة، رغم تأثير العملية الشاملة فى سيناء 2018 على وصول المخدرات إلى مصر عبر البوابة الذهبية لها فى سيناء شمالا أو جنوبا، ورغم وصول سعر فرش الحشيش إلى ثمانية آلاف جنيه ووصول سعر الطن إلى مائة مليون جنيه، وهذا يعطينا مدى حجم المضبوطات الأخيرة للقوات المسلحة والشرطة من المخدرات، حيث ضبط فى مصنع الحشيش بالكريمات بالمنطقة الصحراوية، الذى كان يمتلكه مصرى وشريك لبنانى ضبط به حوالى 4 أطنان بقيمة تعادل 400 مليون جنيه، وهو ما يكفى لبناء عشرات الوحدات السكنية والمدارس أو المستشفيات.. الحرب المستمرة رفعت سعر الهيروين إلى 50 ألف دولار للكيلو الواحد، وأدت إلى ظهور مخدرات جديدة أرخص سعرا وأكثر انتشارا وأصعب فى مواجهتها وخسارتها الصحية، فهى أكثر فتكا بالتعاطى بمراحل عديدة، واستمرارا للحرب وتطويرا لها ظهر الأستروكس والفودو وهو «قنب مخلق»، ويطلق على أنواعه السبايس، السموك ويؤدى إلى الهلوسة والتسمم وفقدان الوعى، ويدخل المدمن فى حالات من الهلاوس السمعية والبصرية، وأيضا الأستروكس وهو خليط من نبات المرمرية مضافا إليه أدوية ومواد كيميائية، فى حين ينتشر أيضا دواء «بريغالين» وهو يستخدم فى علاج الأعصاب الطرفية.
المواجهة تتصدرها وزارة الداخلية، ولكن إلقاء العبء كله عليها لن يؤدى إلى القضاء على الإدمان، يجب أيضا أن تنضم إليها جهات عديدة ومنها وزارة التضامن التى تقوم بدور مهم، وربما غير معلن أو لا يتناوله الإعلام بكثافة، فدورها يبدأ فى علاج الإدمان ومحاولة مكافحته قبل الوقوع فيه بالتوعية، وتولى د. غادة والى وزير التضامن الاجتماعى مجال مكافحة الإدمان اهتماما خاصا، رغم أن هناك ميادين عمل متعددة ومهمة تقوم بها حاليا، وفى الفترة الأخيرة نجح صندوق مكافحة الإدمان فى فحص 12 ألف سائق لوسائل نقل مدرسية كشفت عن وجود حوالى %3 مدمنين بينهم، وتلقى الخط الساخن لعلاج الإدمان 78 ألف مكالمة للاستفسار أو لطلب العلاج، وهو رقم يكشف عن خطورة الوضع، فالمتصلون هم الذين أبدوا رغبة فى العلاج وهناك فى المقابل أضعاف هذا الرقم لم يحاول الاتصال، وفى حين استقبل 22 مركزا علاجيا، من المقرر أن يرتفع العدد إلى 27 قريبا، هذه المراكز فى المنيا ومطروح والفيوم والغربية والقاهرة استقبلت 16 ألف مريض إدمان منهم %7 من السيدات وهذا مؤشر آخر يشير لأهمية القضية.
خطورة القضية تضعها فى مصاف القضايا الأولى بالاهتمام وهى لا تقل عن مواجهة الإرهاب، فإذا كان الإرهاب يستهدف الإيقاع بضحايا أو إسقاط الدولة، فإن الإدمان والمخدرات تسقط آلاف الضحايا فى صمت، وإذا كانت الدولة تحاول فى الفترة الأخيرة رصد متابعة حالات وفيات الشباب، التى أصبحت ظاهرة، فإن هناك العديد من الشباب الذى يلقى حتفه نتيجة جرعة زائدة أو إدمان لمخدر كيميائى يؤدى به إلى الموت سريعا.
كنت أتوقع بعد أن تقدم النائب مختار دسوقى بطلب إحاطة فى البرلمان أن تسارع الحكومة للرد، وأن تسارع لجان المجلس لبحث الظاهرة ومواجهتها. انتشار الإدمان بين الشباب امتد إلى سن صغيرة وإلى فئات متعددة ومختلفة، والمواجهة أصبحت ضرورية قبل أن يسقط شباب مصر فى فخ الإدمان.
ما يقوم به الرئيس اليوم من مواجهة للعشوائيات وإنشاء للطرق وبناء مدن جديدة ومشروعات صغيرة أو قومية يقوم به لتسليمه لشباب أصحاء، وإذا كنا قد بدأنا فى مواجهة فيروس c ونجحنا فى ذلك من خلال الحملات القومية والتوعوية، فإن خطر الإدمان هو الأهم اليوم، فكل ما تقوم به الدولة المفروض أن يتسلمه ويكمله ويحميه شباب أصحاء، ومريض الإدمان لا يقتل أو يضر نفسه فقط، فهو يسىء لأسرته ويقتل أحلامهم ويتحول إلى عبء على وطنه، فبدلا من أن يعطى الوطن، يتحول إلى مريض يتحمل الوطن أعباء علاجه أو ثمن أخطائه.
سارعوا إلى إنقاذ الشباب من فخ الإدمان أو بمعنى أشمل سارعوا إلى إنقاذ الوطن، المطلوب حملات توعوية دينية وحملات للفحص فى كل مكان.. عالجوهم وتابعوهم، فيروس c كان يهاجم الكبد، والأورام تهاجم الجسد وكثير من مبدعينا ومخترعينا قدموا الكثير وهم تحت وطأة المرض العضوى، ولكن الإدمان يفقد المدمن عقله ومن لا عقل له أخطر بكثير على المجتمع من مرضى آخرين.
هل نبدأ حملة مصرية بلا مخدرات؟ هل نضعهم فى معسكرات عمل وعلاج تشرف عليها القوات المسلحة حتى يتخصص الانضباط فى مراكز العلاج التى يعمل أكثرها بلا ضابط ورابط ولا قانون؟ هل يصدر قانون بمصادرة كل أملاك تاجر المخدرات وأسرته؟ هل نعدم تجار المخدرات؟ هل نصدر قانونا خاصا بهم لا يمنحهم مددا كثيرة للنقض حتى تتحقق العدالة الناجزة بحقهم؟
الإدمان أخطر من الإرهاب ولا بد من مواجهته سريعا وبحسم.