ذكرت فى المقالة السابقة أن حفظ الأعراض من مقاصد الشريعة الكلية، وقد حملت شريعتنا العديد من المعالجات السلوكية والعقابية لحماية الأعراض، فشرعت الزواج لإشباع حاجة الجنس البشرى بنوعيه للغريزة التى خلقها الله لعمارة الكون من خلال طريق آمن ومنظم ويحقق مقاصد أخرى كثيرة، كالألفة والسكن والمودة، وحمت شريعتنا الأعراض من جناية الفعل بحد الزنى جلدًا لغير المحصن ورجمًا للمحصن، ومن جناية القول بحد القذف للغير بالزنى ثمانين جلدة، بالإضافة إلى إسقاط مروءته عند القاضى، ووصفه بالفاسق، ومع ذلك فإن جرائم العِرض لم تنتهِ من المجتمع، بل ربما تتنامى فى كل وقت أكثر من سابقه، وأخطر هذه الجرائم جريمة الزنى التى قد تكون غصبًا أو بتراضى الطرفين، وقلنا إن التراضى لا يقلل من كونها كبيرة، بل هو ما نزل فيه الحد، وما لم يكن متصورًا هو الزنى الواقع بين المحارم الذى تطالعنا به الأخبار، ناهيكم بالمستتر، ولا أدرى كيف للنفس السوية أن تجنح إليه وتقبله!
وأمام هذا الانحدار الأخلاقى، وفى ظل غياب العقوبات الحدية الرادعة، فإنه ينبغى البحث عن حلول غير تقليدية قابلة للتنفيذ ولا تتصادم مع روح أحكام شريعتنا، حيث إن جريمة الزنى تخلف آثارًا مدمرة، ولا سيما على المرأة وعائلتها، فقد درجت ثقافة الناس على استقباح الجريمة فى حقها أكثر كثيرًا من الرجل الذى قد يتباهى بها مع الأسف الشديد، وهذه الثقافة موروث جاهلى عبر عنه كتاب الله بقوله تعالى: «وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ»، فالوأد كان من نصيب البنات خاصة، ولم يكن للبنين، مع أن الزنى يكون من البنين كما يكون من البنات، ولكنهم فى الجاهلية كانوا يرونه عارًا من الأنثى دون الرجل، وكان الجاهليون يقتلون أو ينكِّلون بنسائهم لمجرد شبهة الزنى، فى حين يذهبون هم لممارسته مع ذوات الرايات الحمراء!
وهناك شىء من هذا الموروث ما زال فى ثقافة مجتمعاتنا مع الأسف، فإذا زنت المرأة جلبت العار لعائلتها بكاملها، فى حين يمر زنى الرجل مرور الكرام، وربما يعبرون عنه بطيش الشباب فى أفضل أحوال الاستنكار، مع أنه لا فرق على الإطلاق بين الزانية والزانى فى القبح وعظم الذنب ومقدار العقوبة! ولما كانت المرأة مجتمعيًّا أكثر تضررًا من الرجل، كان من غير الطبيعى أن يُترك مَن ثبت منه الفعل حرًّا طليقًا وكأنه لم يفعل شيئًا، تاركًا العار وضياع المستقبل وتحمل تبعات هذا الجرم للمرأة، خاصة أن حدث حمل وولادة.
وقد سبق اقتراح حل لمسألة المولود من هذا الفعل، وهو إثبات نسبه للفاعل كما ثبت لأمه، لكن بعد إثبات نسب المولود لأبيه، تبقى مشكلة الأم التى يصعب أن تجد مَن يقبلها زوجة وأمًّا لأولاده بعد أن عرف ما كان منها، ولذا فإنه يقترح لعلاج هذه المشكلة إلزام الفاعل بالزواج ممن زنى بها زواجًا شرعيًّا، مع ضمانات قانونية تجعل من هذا الزواج زواجًا طبيعيًّا، وليس زواجًا صوريًّا بأن يتزوجها ثم يطلقها ربما فى نفس المجلس، كما يحدث فى حالات التصالح.
وربما يعترض بعض الناس على هذا الطرح، ويرونه محاباة للمرأة مع أنها شريكة للرجل فى جريمته، وربما تكون هى مَن أوقعته فى هذا الجرم، وقد يُعترض عليه أيضًا بأن الزواج عقد توافقى يُشترط فيه الإيجاب والقبول، وهنا شرط الرضا مفقود من جانب الرجل، ولكن ربما يزول هذا الاعتراض إذا علمنا أن إلزام الرجل بالزواج بالمرأة فى هذه الحال ليس معناه محاباة للمرأة أو تخفيفًا لجرمها على حساب الرجل، بل هو من التعويض عن الآثار المترتبة على فعل الرجل وفعلها، وكلاهما شركاء فى الجريمة، فعليهما تحمل تخفيف الآثار إن لم يكن من أجلها فمن أجل عائلتها، ولا سيما إن ترتب على هذا الفعل حدوث حمل وولادة، فضلًا عن أن كليهما أقدم على هذا الفعل المحرم برغبة منه، فعليه أن يتحمل نتيجته. وأما القول بأن الزواج عقد توافقى يُشترط فيه توافق الإرادتين بين الرجل والمرأة، فهذا حق فى حال الزواج غير المسبوق بجريمة من الطرفين، ولا يوجد ضرر لاحق عليه نبحث له عن حل، وحالات الضرر متى ثبت هذا الضرر تؤثر سلبًا على الرضا، ولن نعدم مثالًا - بل أمثلة - لعدم اعتبار الرضا فى حالات رفع الضرر، فمن المعلوم أن الطلاق حق يملكه الزوج على زوجته، وهو يستطيع أن يوقعه عليها ولو من دون رضاها، كما أن القاضى يملك تطليق الزوجة من الزوج من دون رضاه لرفع الضرر الواقع عليها، كما لو تعمد إيذاءها بالضرب أو الإهانة أو عدم الإنفاق ونحو ذلك، ولا أظن أنه مهما بلغ الضرر الواقع على الزوجة من الزوج الذى أسقط اعتبار الرضا بالتطليق من جانبه، وسوغ للقاضى تطليقها رغمًا عنه، لا أظن أن هذا الضرر يمكن أن يساوى حجم الضرر المترتب على المرأة فى حال الزنى.
ولذا، فإننى أرى مجتهدًا أنه لا يوجد ثمة مانع من إجبار الرجل على الزواج بالمرأة التى زنى بها، وذلك لدرء الفضيحة عن المرأة، ولعدم ضياع الولد بفقد النسب، وليس الرجل هو مَن يُلزم بالزواج بمَن زنى بها فقط، بل إن المرأة أيضًا تجبر عليه لدرء العار عن عائلتها، وحتى لا يضيع ولدها إن حدث حمل وولادة، ومبدأ إجبار الفتاة على الزواج غير مفقود فى تراثنا الفقهى، فقد تحدث الفقهاء عن إجبار الولى لمن لم تتزوج من قبل، وإن كان ذلك محل خلاف بينهم، ومن البدهى أن إجبار الطرفين على الزواج يكون فى الحالات التى يمكن أن يتزوج فيها الطرفان دون وجود مانع شرعى، كما لو كانت المرأة متزوجة، أو كانت من محارم الرجل.