استوقفنى كثيرا أعزائى هذا التحدى الكبير الذى قامت به بعض الدول الفقيرة جداً فى مسألة النظافة والنظام بشكل ملفت للنظر .
وفى هذا الموضوع تحديداً سأتخذ من التجربة الرواندية نموذجاً مشرفاً مبهراً لا يحتذى به فقط بل يدعونا لوقفة مع النفس وشعور بالخجل من أنفسنا، وما أصبحنا عليه رغم الفارق الشاسع جداً بين ظروفنا على كل المستويات وبين رواندا، بما كانت تعانيه من مجازر تقشعر لها الأبدان .
فقد عانت رواندا ويلات الحرب الأهلية الطاحنة منذ عام ١٩٩٠ وحتى عام ١٩٩٤، والتى كانت بين قبيلتى (الهوتو والتوتسي)، واختتمت أزماتها بالإبادة الجماعية، حيث شن القادة المتطرفون فى جماعة الهوتو التى تمثل الأغلبية فى رواندا حملة إبادة ضد الأقلية من قبيلة توتسى، وخلال فترة لا تتجاوز 100 يوم، قُتل ما يقارب على ٨٠٠ ألف شخص وتعرضت مئات الآلاف من النساء للاغتصاب، وقتل فى هذه المجازر ما يقدر بـ75% من التوتسيين فى رواندا.
وقد تركت الحرب رواندا مدمرة، وخلفت مئات الآلاف من الناجين الذين يعانون من الصدمات النفسية، وحولت البنية التحتية للبلد إلى أنقاض، وتسببت فى إيداع ما يقرب من ١٠٠ ألف من الممارسين لها فى السجون، ولا يزال تحقيق العدالة والمساءلة والاتحاد والتصالح أمراً صعباً.
ومع ذلك فسرعان ما قامت الدولة بإعادة البناء والإصلاح لما دمرته الحرب، وتحولت هذه الدولة الصغيرة الفقيرة المنهارة على كل المستويات إلى نموذج يتحدث عنه المتحدثون بالنسبة للنظافة .
ولم يكن هذا التحول بسن قوانين صارمة من الدولة ولا فرض عقوبات على المواطنين، ولا القيام بحملات منظمة مكثفة للتوعية، لكنها إرادة ووعى شعب أنهكته الأزمات ودمرت أرضه النزاعات وذاق من ويلات الحروب ما لن ينساه أبدا.
فقد شاهدت تقريراً موثقاً عن مستوى النظافة الرفيع الذى تنفرد به رواندا كدولة أفريقية صغيرة المساحة قليلة السكان، وكان هناك ما يدعو للتفاؤل باتفاق جميع السكان على كل المستويات والأعمار بالنزول للشوارع لتنظيفها، يوم السبت من مطلع كل أسبوع، مع منع سير المواصلات العامة والخاصة نهائيا من الساعة ٦ صباحاً إلى الـ ١٢ ظهرا، وكأنه قانون شديد الصرامة، لكنه ليس بقانون على الإطلاق، فهو مجرد عُرف اتفق عليه الجميع وألزموا أنفسهم به إلزاماً أخلاقياً يفوق إلزام القانون، لنرى بأعيننا نتيجة هذا الوعى وتلك الثقافة التى نقف لها احتراماً وتقديرا لشعب كانت له من الحجج الخاصة بالإحباط والانزواء ما يمنعه عن هذا التفاؤل وتلك الإرادة .
ومن رواندا كنموذج استثنائى إلى تونس كنموذج محترم فى هذا الشأن، إذ إنها هى الأخرى تعد مثالاً للنظافة التى لا يخطئها أحد والتى لا تتعارض أبداً مع كونها دولة صغيرة فقيرة، لكنها إرادة شعب استطاع أن يتخذ لنفسه مكاناً ومكانة يستحقها ويتفرد بها بين أقرانه وجيرانه، ليذيع صيت تونس الخضراء كأهم الدول العربية على مستوى النظافة .
ألم تكن بتونس ثورة تسبق ثورتنا، ومن يومها وحتى الآن لن تتوقف الأحداث والنزاعات ولم تنته تبعات تلك الثورة بعد، لكنها أعزائى رغبة وإرادة وثقافة شعب .
نهاية أعزائى.. هل لنا أن نواجه أنفسنا بتقاعسنا وتقصيرنا، هل نتخلص من الشماعات الواهية التى نتخذها دائماً وأبداً ذريعة لإهمالنا وإحباطنا؟ هل نعجز كشعب عريق ذى عدد كبير وحضارة عظيمة تنحنى لها الهامات إجلالاً وتقديرا أن نستفيق من نومنا العميق وننفض الحجج والمعوقات النفسية التى نختلقها كى لا نفعل ما يجب علينا فعله؟
هل تتعارض النظافة مع الأوضاع السياسية أو الاقتصادية أو غيرها من الأوضاع التى تمر بها الشعوب؟ هل عانيتم من الويلات والمذابح ما عاناه شعب رواندا؟ بالقطع لا.. فالنظافة من الإيمان إن كنا مؤمنين، فليبدأ كل منا بنفسه ومن حوله والمنطقة التى يسكنها، لربما نحرج المسئولين ونشد من أزرهم لتدور العجلة بالتعاون بيننا وبينهم، فمصر تستحق أن تكون نظيفة .ولنا فى التجربة الرواندية أسوة حسنة.