الطاقات الإنسانية المبدعة تخبو وتفقد بريقها كلما قوبلت بالنكران والتجاهل.. فالثقة بالنفس والإحساس بالتقدير هو الذى يحفز هذه الطاقات على الإبداع والعطاء..أما الشعور بالجحود فهو قادر على وأد أى موهبة وقتل أى طاقة.. فلم نعرف أحمد زويل رحمه الله إلا بعد فوزه بجائزة نوبل ولم نشعر بقيمته إلا بعد موته واهتم الإعلام بتوضيح علاقته بأغانى أم كلثوم أكثر بكثير من اهتمامه بشرح نظرياته الفيزيائية أو الترويج لأفكاره العلمية.. فخرج جيل كامل لا يعرف عن أحمد زويل إلا أنه «بتاع الفيمتو ثانية وبيحب يسمع أغانى الستى.. لم نعط لأنفسنا أو لأبنائنا فرصة لنتعلم منه ونستفيد من تجربته العملية والإنسانية والعلمية بكل ما تحمله من زخم وتميز. رفضنا أن نصنع منه قدوة ورمز لشبابنا.. بل تعمد الكثيرون الإساءة له والتشكيك فى جائزته. فهذا يقول لعلاقته باليهود وآخر يقسم على أنه صناعة الأمريكان وآخر يراهن على أنه سطا على أبحاث تلميذ من تلاميذه.. المهم تلطيخه بأى أفكار سوداء لتشويه هذه الواجهة اللامعة لتبهت وتخبو وتفقد بريقها فى عيون أولادنا.. ومات زويل بحسرته بعد أن اتهمه البعض بسرقة الأموال التى جمعها لإنشاء أكاديمية باسمه.. مات بعد أن فشل فى تحقيق حلمه بتطوير البحث العلمى فى مصر ودعم علمائها الشباب. وضيعنا أعظم فرصة بأن تكون هذه القامة العلمية الفذة هى الملهمة لهذا الشعب وأن تمنحه روحا علمية وثقافية بدلًا من لغة العشوائيات التى تجتاح كل شىء.. أحيانًا يقال إن طموحات زويل السياسية جعلت السلطة وقتها تتعمد تشويهه، ولكن الكل شارك فى هذا التشويه ولو بالسكوت أو التصديق.. كان ينبغى أن نحترم الرجل ونقدره ونتعلم منه بدلًا من أن نزايد عليه!! على أى حال كل هذا الكلام يبدو مثل البكاء على اللبن المسكوب.. ولكننى أبكى لأنه مازال ينسكب.. فعندنا المئات من العلماء الذين يحاولون الاجتهاد فى حدود الإمكانيات المتاحة ولم ينالوا منا إلا السخرية أو التجاهل.. وعندنا قامات علمية عالمية فى العديد من المجالات ولكنها لا تظهر فى الإعلام إلا نادرًا وإذا ظهرت فهى للأسف لا تجذب انتباه المشاهدين أو تشغل اهتمامهم.. وحالة العلم لا تختلف عن الفكر.. فعندنا تاريخ هائل من الفلاسفة والمفكرين بداية بأخناتون وانتهاء بالدكتور حسن حنفى ولم نتعلم منهم ولا اكترثا حتى بمعرفة أفكارهم ومشروعاتهم التنويرية بل أن الأغلبية تعتبر نظريات الفلسفة والمنطق من دروب الدجل والهرطقة ورجس من عمل الشيطان. واختفت الفلسفة تمامًا من حياتنا، وأصبح «علم الجمال» أو «مباحث القيم» أو «فلسفة الأديان» أشبه بتعاويذ الساحر القديم التى لا يفهما أحد.. وتجنب الناس علوم ومبادئ المنطق حتى صارت حياتهم تسير بلا إدراك لأى مقدمات ونتائج.. وفى الوقت الذى يخصص فيه الإعلام ساعات وصفحات يوميًا للتحدث عن الحوادث والمجرمين والمتحرشين يبخل علينا ببعض المنطق.. أو قل إننا السبب وإننا نفضل ألا نفكر.. حتى أصبح من النادر أن يلمع بيننا اسم مفكر شاب أو عالم أو مبدع فى الوقت الذى ننشغل فيه بمراقبة صراع القطبين سيد شطة وحمو بيكا.. حتى فى برامج المسابقات المنتشرة الآن فى كل الفضائيات العربية لا يوجد برنامج واحد للمثقفين أو المبدعين أو العلماء كلها مسابقات فى الغناء أو الأكروبات أو الرقص، ورغم تقديرى لكل هذه الأنواع من المهارات إلا أنها لا تغنى عن مهارات العقل. وتجاهلنا الشديد لهذه النوعية الفريدة من البشر وعدم الترويج لهم بين أولادنا وشبابنا سيحرمنا منهم فجأة.. فنجد مصر خاوية جاهلة بلا علماء ولا مفكرين ولا فلاسفة.. وبطبيعة الحال، فالفنانون ولاعبو الكرة هم الأشهر فى العالم كله ولكن دائمًا ما تعطى المجتمعات المتحضرة مساحات أوسع للمعرفة واهتمام عظيم بالعلماء والمبدعين والمفكرين ليكونوا محط أنظار الناس والإعلام وليكون لهم فرصة فى إلهام الشباب وتطوير مفاهيمهم وقدراتهم.. فتلك الفئة يطلقون عليها لقب القمة.. لأنهم مفتاح الحضارة.. فالمستقبل لا يصنعه إلا هؤلاء.. لذلك أرجوكم بأن ننتبه لهذه الفئة العزيزة النادرة من البشر وأن نحاول دعمهم ومساندتهم ومنحهم الاهتمام والتقدير الكافى لأننا كلما تجاهلناهم جهلنا المستقبل وفقدنا بوصلة التحضر.