ينصحنا "مارك مانسون" فى كتابه الرائع "فن اللامبالاة" بأن نعرف حدود إمكاناتنا وأن نتقبلها، وأن ندرك مخاوفنا ونواقصنا وما لسنا واثقين منه، وأن نكف عن التهرب والفرار من ذلك كله ونبدأ مواجهة الحقائق الموجعة، حتى نصير قادرين على العثور على ما نبحث عنه من جرأة ومثابرة وصدق ومسئولية وتسامح وحب للمعرفة، لا يستطيع كل شخص أن يكون متميزًا متفوقًا، ففى المجتمع ناجحين وفاشلين؛ وقسم من هذا الواقع ليس عادلًا وليس نتيجة غلطتك أنت، وصحيح أن المال شىء حسن، لكن اهتمامك بما تفعله بحياتك أحسن كثيرا؛ فالتجربة هى الثروة الحقيقية.. إنها لحظة حديث حقيقى صادق لشخص يمسكك من كتفيك وينظر فى عينيك، ومن ثم فهذا الكتاب صفعة منعشة لهذا الجيل حتى تساعده فى عيش حياة راضية مستقرة.
كلام مانسون يأتى فى مناسبة أن الإهمال أصبح سبب رئيسى وجوهرى فى حوادث القطارات خلال السنوات الأخيرة.. الإهمال يتسبب فى تدهور محصول القطن المصرى الذى عرف بجودته على مدار السنين.. الإهمال الطبى يتسبب فى موت المرضى يوميا وبلا هوادة.. الإهمال يتسبب فى سرقة وضياع الآثار منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.. الإهمال يتسبب فى تضخيم قضية النوبة على قدر مصريتها الضاربة فى جذور الأرض.. الإهمال وراء تراجع مستوى الرياضيين فى مصر الأمر الذى يتسبب فى ضياع الميداليات فى البطولات الدولية.. الإهمال سبب تراجع دور الثقافة ومن ثم التأثير على مستقبل أجيالنا..الزجاج المصرى.. ماض تليد وصناعة متروكة للإهمال حتى أصبحت نهبا للدول الأجنبية.
كل هذا وأكثر جعل من الإهمال والتسيب الذى يؤدى بالضرورة إلى الفساد ظاهرة مصرية أصيلة توقع بنا المصائب والخيبات تلو الأخرى، وفى وضح النهار دون اكتراث بحياة البشر وضياع المرافق والمنشآت الحيوية فى بلد أصبح يحتاج وبصورة عاجلة إلى يقظة حقيقية، ووقفة مع النفس لوقف ذلك النزيف اليومى الذى يلتهم ثرواتنا البشرية والمادية فى وقت يصعب فيه الصعب أن نتعرف على الأسباب العميقة لثقافة الإهمال التى أصبحت كالسوس الذى ينخر فى عظام المصريين، والتى يقع فى مقدمتها الجهل، والأمية، والتواكل، والفهم الخاطئ المتجذر للدين، لقد استغرقنا فى الإهمال للأسف لدرجة أننا أهملنا مواجهة مشكلة الإهمال!، وذلك على الرغم من مئات المقالات والأحاديث والتحقيقات الصحفية والإعلامية التى قيلت وأثيرت عقب كل كارثة.
وكعادتنا دوما ما يلبث أن تتوارى الأزمات تلو الأخرى، وتقابل دائما بالإهمال، وهو الأمر الذى يبدى تخوفى الشديد من أن تؤدى تلك المصائب الناجمة عن تلك الحوادث والكوارث التى يسببها الإهمال إلى تكريس صورة نمطية عنا نحن المصريين، لا نحبها أبدا لأنفسنا، ومن ثم يصبح لازاما علينا فى هذه اللحظة الفاصلة أن نجتهد فى التصدى لها ولا نهمل أبدا فى مواجهتها، وذلك بسن تشريع قوى يحاصر الإهمال فى عقر داره ويقضى على آثاره المهلكة، فلسنا بحاجة أبدا إلى كارثة جديدة لنعرف أن الإهمال هو الوجه الآخر للإرهاب، فنحن الأسف نعيش تلك الحالة اليومية من مواجهة حياة اختار أصحابها الإهمال ليكون سلوكاً حاكما يمارسونه باتفاق غير معلن، وغض الطرف حتى تقع الكارثة فينتفض الجميع يسبون الإهمال والمهملين، ثم يعودوا سريعا إلى ممارسة فعل الإهمال بإصرار عجيب تمهيدا لوقوع كارثة جديدة.
صحيح أن الإهمال هو إحدى السمات الشخصية للفرد، والتى عادة ما تكون جزءاً من سمة عامة، أو نتيجة لها لتفرز فى النهاية نوعا من الإحباط أو العجز أو الاتكالية، أو كل هذا معا جملة واحدة، لكن فى الغالب يتولد الإهمال نتيجة عادات اكتسبها الشخص نفسه من البيئة الفاسدة المحيطة به، أو نتيجة القدوة المهملة، واللامبالاة المبكرة، وغياب ثقافة المسؤولية التى أصبحت آفة عصرنا الحالى، وهو ما يساعد حتما فى تجذير وتأصيل الإهمال كجزء من المكونات "الثقافية" للشعوب، جراء غياب سلطة وسطوة القانون الرادع، فالقاعدة تقول: "إن من أمن العقاب أساء التصرف بحكمة ومسئولية"، الأمر الذى يؤدى إلى تفشى ظاهرة الإهمال واللامبالاة والاستهتار وعدم المسئولية، وكلها أصبحت أمراضا مستشرية لدرجة تكاد تهدد المجتمع كله فى كيانه بل تضربه فى مقتل.
ولأن الشعب المصرى من سماته الاجتماعية هى السلبية، واللامبالاة، وهى ما عكستها الأمثلة الشعبية المورثة "خير تعمل شر تلقى" والمصطلحات الشبابية الجديدة والتى تعبر عن أسلوبهم فى التعامل، ألا وهى مثل: "كبر" و"نفض "، وبالتالى من كانت السلبية مبدئه فلن يكون مواطن فعال نشطا سياسيا يشارك فى الانتخابات، وينتقد السياسيات الخطأ للمسئولين ويحاسبهم، ويختار القيادات الصالحة، ونظرا لأن المشكلة متعددة الأبعاد والجوانب، حيث تتضافر مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التى أدت لتعقد المشكلة بهذا الحجم، ولأن المشكلة مرتبطة بالإرث الثقافى للشعب المصرى، ولتراكم المشكلة لسنوات طويلة أصبح يصدر لنا البعض تصورا محبطا بأنه ليس من السهل حلها، لكنى أوكد أن الحلول ممكنة، بل إنها تؤدى لإصلاح اجتماعى ينمى شعور الفرد بأهمية دوره فى القضاء على السلبية والتحرك نحو المزيد من الإيجابية.
للأسف الشديد فى الوقت الذى تحاول فى الدولة عمل شبكة طرق جديدة تخدم محاور التنمية فى مصر، نجد تراجعا ملحوظا فى أداء سكك حديد مصر التى أصبحت بحالة مزرية، رغم تطوير أسطول الوحدات المتحركة وتوريد 1300 عربة حديثة، وتأهيل 81 جرارا اعتبارا من نوفمبر 2018 وتوفير قطع الغيار بتكلفة 575 مليون دولار، فضلا عن شراء 100 جرار جديد بتمويل من بنك EBRD بتكلفة 290 مليون دولار، وتصنيع وتوريد 140 عربة بضاعة طرازات مختلفة من الهيئة العربية للتصنيع بـ 543 مليون جنيه، وكذلك تدعيم أسطول عربات بضائع السكك الحديدية بـ800 عربة جديدة، إضافة إلى دعم شبكة الخطوط الحالية واستكمال تجديد السكة بتكلفة 6 مليارات جنيه.
وهنالك أيضا خطة التطوير الشامل للمزلقانات الواقعة على شبكة السكك الحديدية، وتطوير وتحسين محطات السكك الحديدية بالوجهين القبلى والبحرى، هذا غير توقيع عقد للتعاون بين الهيئة العربية للتصنيع وشركة "ليندنبرج" الدولية، التى تُعد من كبرى الشركات الألمانية العاملة فى مولدات الديزل والغاز، والتى تعمل مع الجيش الألمانى وقوات حلف الناتو، وهذا التعاون التعاون سيمتد من خطوات التدريب ونقل المعرفة والخبرات وصولاً للتصنيع المحلى الكامل، والتصدير الى الدول العربية والإفريقية، وكلها مجهوات جبارة لكن للأسف أصبحت سكك حديد مصر وبعض الطرق القديمة والكبارى القائمة جراء الإهمال "مصيدة" للأرواح والقطارات والسيارات معاً، فى ظل غياب أعمال الصيانة اللازمة لها، وانتشار المطبات العشوائية فوقها، مما يكون سبباً فى وقوع العديد من الحوادث، أو تعطل حركة السير عليها.
وبعيدا عن السكة الحديد تشير الإحصاءات والدراسات الرسمية وغير الرسمية إلى أن أحد أهم أسباب زيادة حوادث الطرق هو سوء حالة الطرق وعدم الالتزام بعمل الصيانات اللازمة لها، الأمر الذى يكبد الدولة خسائر فى الأرواح وخسائر مادية أيضا، خاصة الكبارى التى تفصل بين عالمين مختلفين فمن فوقه تسير تلك السيارات الفارهة كل إلى مسعاها، ومن أسفله ذلك العالم السرى الذى يتجمع فيه "الغلابة"، وإذا تحدثنا عن العالم الأول سنجده عبارة عن مجموعة من الحوادث والأزمات المتكررة، والتى يسفر عنه يوميا أن نسمع عن العشرات من الوفيات، كما أنه فى الوقت ذاته يكشف لنا عن الإهمال المنتشر بالكبارى فى القاهرة الكبرى والمحافظات جراء غياب وإعادة ترميم لازمة كل فترة.
ومن هنا أحب أن ألفت النظر إلى طرق الموت القادم على الطريق، وحتى لا نفيق على كارثة مفزعة جديدة، علينا أن نلقى نظرة سريعة إلى بعض الكبارى، وحتما سوف يتسلل الخوف إلى قلبك بسبب الموت المحقق الذى ربما تراه يوميا بلاهوادة أو رحمة، فالفصلات الموجودة عليه عفى عليها الزمن، فضلًا عن عوامل التآكل والتعرية والعوامل البشرية التى تعد أحد أهم الأسباب فى إلحاق الضرر بالكبارى والطرق، ومنها على سبيل المثال: الحمولات الزائدة لسيارات النقل، والتى لا يراعى سائقوها أنها تهلك الكبارى وتتسبب فى اتساع الفواصل والمطبات، وقد تؤدى فى بعض الأحيان إلى وقوع انهيارات لأجسام الكبارى، ناهيك عن التشققات والحفر التى تتفاجأ بها بعد كل مسافة عند السير والتقدم أكثر، وكذلك الأسوار التى تآكلت أو غير موجودة بالأساس، وهو الأمر الذى بدق ناقوس الخطر لدى المواطنين وينذر بتعرضهم للموت فى كل لحظة أو ثانية.
ولا تزال أصداء حادث قطار محطة مصر، الذى راح ضحيته العشرات من المصريين بعد اصطدام قطار بالرصيف وهو ما أسفر عن انفجار قوى، تسيطر على الشارع المصرى، حيث يناقش مجلس النواب مشروع قانونا جديداً لتشديد عقوبة الإهمال فى العمل لتصل إلى الإعدام - وقد أفلح مجلس النواب إذا فعل، فلقد أصبح لازاما على البرلمان المصرى الآن "تشديد العقوبات" فى حالات الإهمال الجسيم الذى يترتب عليه قتل متعمد، بحيث يعاقب مرتكبه بعقوبات مماثلة لعقوبات القتل العمد التى تتراوح بين الأشغال الشاقة المؤبدة والإعدام، نعم نحن نطالب وبسرعة بضرورة تشديد عقوبة الإهمال الذى يؤدى إلى القتل، وبخاصة أن ضعف العقوبات لا يمثل رادعاً حقيقياً، رغم أنه قد يتسبب فى كارثة حقيقية، مثلما حدث فى حالة قطار محطة مصر، من الاستهانة بمتطلبات الوظيفة وأرواح الناس، ولعل هذا التعديل التشريعى الذى اقترحه بعض النواب يهدف إلى ردع المتسببين فى مثل هذه الحوادث الجسيمة وغيرها فى مختلف مرافق الدولة بسبب الاستهتار بأرواح الناس والاستهانة بالعقوبات المقررة مسبقا وهى غير كافية للأسف.
وأخيرا وليس آخر، لماذا لا يتم إسناد هيئة السكك الحديدية إلى الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة بعد نجاحها فى إدارة المرافق العامة، أو عمل اكتتاب عام يشارك فيه القطاع الخاص لإدارة مرفق يمكن أن يكون ناجحا على غرار إدارة منطقة الأهرامات؟، وأيضا لدينا تجربة ناجحة أخرى يمكن أن تكون السكة الحديد على غرارها، وهى الهيئة العربية للتصنيع، فبعد إعادة افتتاحها من جديد بقرار من الرئيس السيسى أعادت لمصر دول الخليج مثل "السعودية والكويت والبحرين والإمارات" لضخ الاستثمارات حتى أصبحت رقم 1 فى التصدير لأفريقيا والدول العربية وبعض الدول الأوروبية.
والسؤال الجوهرى: لماذا لا تصبح السكة الحديد هيئة مستقلة على غرار "هيئة قناة السويس"، وهى بالمناسبة قطاع نقل نجح بقيادة الفريق "مميش" فى ارتفاع دخلها من 4,5 إلى 6 مليار دولار - كما سيتم إعلان ذلك فى 25 أبريل - ولديها بضائع مركونة تقدر بـ 180 ألف طن بزيادة 80 ألف طن خلال السنة الأخيرة، كما نجح رئيس الهيئة فى التعاقد مع روسيا منذ أسبوعين على 6 كم وكوريا الجنوبية 15 كم لإقامة صناعات لوجستية، والصين 22 كم لمشروع انتاج وتصنيع وتصدير الرخام، ومع ألمانيا لإنشاء مصنعين لإنتاج سيارت "BMW ومرسيدس" لتصديرها للخارج، لقد أصبح لدى "مميش" تعاون مع 14 دولة لإقامة مناطق صناعية ولوجستية لتصديرها لهذة الدول مقابل الحصول على ضرائب، وللعلم فإن عدد العامين بهيئة قناة السويس لا يزيد عن 13 ألف موظف، فى حين يعمل بهيئة السكة الحديد 73 تم تعين 22 ألفا منهم منذ 2011 حتى الآن، بينما لا تحتاج سوى 4 إلى 6 آلاف عامل فقط، كما أن مرتبات العاملين فى السكة الحديد أعلى بكثير من هيئة قناة السويس.