فى بداية دخول خدمة الإنترنت فى مصر، اقترح أحد أساتذتنا فى الصحافة الذين قضوا كل حياتهم فى الصحافة الورقية، وفى مطابع الرصاص والأوفست، أن يتم استحداث باب صحفى ثابت فى العدد الورقى اليومى عنوانه «النت يقول» يتم خلاله نشر بعض ما سبق نشره على الشبكة العنكبوتية، من أخبار وصور.
هذا الخطأ الذى وقع فيه أستاذنا، رحمه الله، تحول إلى خطيئة فى السنوات الأخيرة، حيث تعامل الناس مع ما ينشر على «النت» باعتباره كلاما مقدسا أو حقيقيا.. وبدأنا نردد الأكاذيب على أنها حقائق، وعندما تحاول التصحيح لأحدهم يكون الرد المعلب جاهزا هو: «النت» بيقول؟
«نت» من الذى يقول؟ لم نكن نعلاف فى البداية أن «الإنترنت»، مجرد وسيط، مثله مثل الصحيفة الورقية، ومثله مثل التليفزيون، أو الراديو، مجرد وسيلة للإعلام، ويبقى على عاتق القائمين على الوسيلة، نوعية الرسالة، كل هذا كان مقبولا والأخطاء التى كانت تقع كانت محدودة بمحدودية من يستخدمون الإنترنت، حتى وقعت الثورة الإلكترونية، وانفجرت فى وجه المجتمع الدولى وسائل التواصل الاجتماعى، وأصبح المواطن فى حقيقة الأمر مصدرا لصناعة الخبر، يكتب ما يريد، وينشر ما يريد من صور وفيديوهات، ويطرحها فى هذا الفضاء اللامحدود، وتحولت مواقع «السوشيال ميديا» إلى أداة خطيرة من خطورة من يستخدمونها فى إشاعة الأكاذيب، وبث الفتن، وإشاعة الفوضى، والأحقاد، للأسف ليس على مستوى الدول بل على مستوى الأسر والمجتمعات الصغيرة فى القرى أو فى المدارس والأندية، وتحول كل منا إلى «مواطن صحفى» يمتلك نفس أدوات الصحفى المحترف الذى قضى حياته يدرس قيم الخبر، وطريقة بنائه، وكيفية الوصول إلى المصادر، والأهم الأخلاقيات والضوابط التى يجب أن يتعلمها قبل أن يكتب خبرا، أو يتناول شخصا ما بالنقد، أو يتهمه فى ذمته المالية، أو يرميه بالفساد، ولكن الفارق أن الـ«سيتيزن جورنالزم» يلقى كلمته لا يلقى لها بالا، فيحطم إنسانا دون أن يدرى، أو ينشر «بوست» أو «تويته» يلقى لها بالا، ويعرف أنها مثل الطلقة يطلقها فى صدر إنسان ليقضى عليه، أو قنبلة يفجرها فى وجه الجميع.
القارئ يعرف هذا، وأنا وأنت ربما نردد ذلك فى جلساتنا، ولكن أن يصل الأمر إلى وقوع المحترفين فى الخطيئة فتلك هى الطامة الكبرى، وتحولت دعابة المصرى الذى نشر تويته عن قرب تعيين والده وزيرا للنقل خلفا للدكتور هشام عرفات الذى استقال فى أعقاب كارثة قطار محطة مصر، إلى فضيحة من العيار الثقيل، حيث وقعنا جميعا فى الفخ، ونشر زملاء فى صحف كبيرة محترمة الأمر باعتباره خبرا حصلوا عليه من مصادر عليمة، ونسبوا إلى الرجل سيرة ذاتية مبهرة، ليخرج بعدها صاحب «التويته» ويكشف ورقة التوت عن الجميع، ويكشف أن الوزير المنتظر ما هو إلا والده الذى توفى قبل 11 عاما، ولم يكن فى يوم من الأيام له علاقة بالسكة الحديد، ولا بفرنسا التى ادعى أنه أنشأ وطور خطوط المترو فيها، ولنقف عرايا أمام مرآة الحقيقة التى تقول إننا كإعلاميين، للأسف، وقعنا فى الفخ، وأصبحنا نردد عن جهل، وعدم موضوعية، واستسهال فى كارثة ترديد الأكاذيب، بدلا من أن نكون مصدر الحقيقة، وحماتها.
أتذكر أثناء الأيام التى سبقت التشكيل الوزارى قبل عدة سنوات أن قام أحد الصحفيين بدس اسم لأحد الزملاء باعتباره مرشحا، وأملاه لزميل آخر فى وسيلة إعلامية أخرى، وذلك من قبيل الدعابة، ولكن خلال 24 ساعة تحولت الدعابة إلى خبر يتم تداوله عبر المواقع الإلكترونية، التى تناقلت الخبر بطريقة «القص واللصق» وصدق الزميل نفسه، وبدأ يروج بين الناس أنه مرشح، وإلى الآن يتعامل مع هذه الدعابة على أنها حقيقية، ويؤكد أن الجهات السيادية اتصلت به، وعرضت عليه تولى الوزارة، ولكنه كانت له اشتراطات لم يلتزموا بتوفيرها فاعتذر، ويقدم نفسه للآن على أنه فلان الفلانى المرشح السابق لوزارة...!
كل هذا يطرح سؤالاً يجب أن نجيب عليه: وما هى إذن المرجعية فى الوضعية التى نحيا فيها الآن بعد أن تحول كل مواطن بحسابه الخاص على «فيس بوك» أو «تويتر» أو حتى «انستجرام» إلى صحفى وإلى مصدر للخبر وأيضا للأكاذيب؟
الإجابة على هذا السؤال ليست بالأمر ليس بالأمر السهل، وتحتاج إلى مزيد من الدراسات من خبراء الإعلام، ولكن حتى يحدث ذلك: احتمِ قدر الإمكان بالحقيقة، تحراها واجتهد فى الوصول إليها، ولا تعتبر ما تنشره وسائل التواصل الاجتماعى حقيقة مسلما بها، بل هى فى النهاية حمالة أوجه، ولكن الأهم فى رأيى أن نلتفت نحن أهل المهنة إلى خطورة الأمر حتى لا تدهمنا هذه الوسائل وتجرفنا فى طريقها ونصبح مجرد أداة لترديد الأكاذيب.