أحب نثر إبراهيم داود، أنتظره وأتابعه، من «خارج الكتابة» إلى الجو العام وحتى كتابه الأخير «طبعا أحباب»، ليس لأنه رائق ومحب ويذكرك دائما باللحظات الصافية والحقيقية فى حياتك، وليس لأنه يشبه اللقاءات القليلة مع أصدقائك القدامى الذين تفتح قلبك معهم ولهم دون خوف من نقل الكلام أو الكراهية المجانية أو موضة النهش لمجرد إثبات وجود وهمى.
أحب نثر إبراهيم داود، لأنه يحمل جوهرا مصريا ويسعى وراء جوهر مصرى، فهو الحكاء ابن الحكائين فى ريف الدلتا، وهو النديم فى جلسات السماع والفضفضة والمسامرة المقرونة بالخبرات الإبداعية، وهو المشاء العليم بالقاهرة القديمة، بروحها العصية على التصنيف وطبقات أعمارها وعلامات الزمن على جدرانها، كما أنه أحد حراس وسط البلد خلال السنوات الثلاثين الماضية الذين شهدوا ازدهار القلب النابض لعاصمة المبدعين والمقاهى والموالد والندوات والحضور العربى، كما شهدوا أيام الانسحاب والتدمير والإهمال وغياب الكتاب والشعراء فى عزلتهم الاختيارية أو الإجبارية.
«طبعا أحباب» الصادر عن سلسلة «حكاية مصر» عن هيئة قصور الثقافة، كتاب صغير لا يتجاوز المائة وسبع وثلاثين صفحة من القطع الصغير، لكنه غنى بالأفكار الحية والالتقاطات المدهشة والعين الذكية الرائية، والخبرات المقطرة دون استعراض أو سقوط فى الحكمية أو الإرشاد، وهو مثله مثل إبراهيم داود، له حالاته وأمزجته وصعوده وهبوطه، يمكنك أن تعرف متى كان رائقا صافيا وهو يكتب عن حجازى الرسام الكبير أو الملك وليم إسحاق أو عمار الشريعى، أو حزينا مقبوضا بدافع الهجمات الشرسة على تراث المدرسة القرائية المصرية العظيمة وهو يكتب عن مصطفى إسماعيل والشعشاعى، أو حتى متعجلا بدافع واجب ما وهو يكتب عن أودن أو أنسى الحاج أو كوروساوا، لكنك فى كل الأحوال لا تملك إلا أن تبقى كثيرا من الخبرات المقطرة الموجودة بالكتاب معك وأنت تواجه الغيلان والعقارب والحشرات المميتة فى فيلم الرعب الذى دخلته ولا تعرف متى ينتهى.
لا أدرى بمَ كان يفكر إبراهيم داود وهو يدفع مخطوط «طبعا أحباب» إلى النشر، فالكتاب الذى يتضمن سبعة وثلاثين بورتريها لشخصيات أدبية وفنية وأحيانا أماكن وأزمنة، يتضمن فى ذاته أكثر من مشروع للكتابة وبنفس الروح السردية البديعة، أولها مشروع الكتاب الخاص بالقراء المصريين العظام، فإذا كان «طبعا أحباب» يضم مقالين عن القارئين مصطفى إسماعيل والشعشاعى، فالمدرسة القرائية المصرية تضم أعلاما لا يمكن أن تسقط من القلب أو الذاكرة، وأثق أن إبراهيم داود يحمل لها فى نفسه وذهنه تفسيرات وحكايات مرتبطة بالسماع، وفى مقدمتهم العظيم صوت السماء محمد رفعت، أو الأستاذ محمود خليل الحصرى، أو صوت الجنة محمد صديق المنشاوى، أو المعلم الطبلاوى، أو صوت الحزن المصرى عبدالباسط عبد الصمد، أو العبقرى أبوالعينين شعيشع، أو الكروان طه الفشنى، أو حامل الأسرار محمود على البنا.
أعرف أن كتابا كبارا تناولوا أعلام مدرسة القراءة المصرية من محمود السعدنى إلى خيرى شلبى وكمال النجمى وغيرهم، لكن هذه المدرسة تحتاج إلى مزيد من الاقتراب والمحبة والإنصات والانتصار لها أيضا، ولدى إبراهيم داود من الخبرة ومحبة السماع والقدرة والمعرفة بالآفاق التى تذهب إليها أصوات السماء، ما يمكنه من إثراء المكتبة العربية بمؤلف جديد لا يعتمد إلا على خبرته الشخصية وتلقيه وفهمه لتلك الأصوات، ومهمتها ودورها فى صناعة الحالة المصرية وعلاج الوجدان الشعبى، مما يلاقيه من عنت وقهر وحزن مقيم.
وعلى نفس المنوال يمكن أن يقيم إبراهيم داود قعدة حكى كتابية مؤثرة وممتعة حول الأصوات وأرباب الأنغام الذين شكلوا وجداننا ومنحونا الصبر على الأيام خلال العقود الماضية، وأنا أعلم أنه كان قريبا من أصوات باهرة وصادقة وموسيقيين كبارا لم يذكرهم فى كتابه، سواء من جيله أو من الأجيال السابقة، وهو يعلم أنه قدم بالفعل من الكتابة، ما يدفعنا لمطالبته بالمضى قدما والتصدى، بمحبته وامتنانه، لمن يحاولون التخلص من سيرة صانعى ذاكرة ووجدان المصريين، ومن يتربصون بالعذوبة والرقة والخيال.. الله ينور يا أبوخليل وشد حيلك.