ولم ألحق بنعش عمى حسين عبد الرازق، تأخرت دقائق، حمله طائر الموت لا يلوى على شىء، فصادفت عمى نبيل زكى واقفًا ذاهلا تمامًا وهو يودع الجثمان، يتمتم بصوت كسير «مع السلامة يا حسين»، فاحتضنته فهمس فى أذنى الحبايب كلهم راحوا وفاتونى، وبكينا معًا.
قبل شهر، يوم انتشرت شائعة رحيله، خشى كثيرون أن يتصلوا بالأستاذ على هاتفه المتاح تمامًا، ليتيقنوا من صحة هذا الخبر الأسود، فواتتنى الجرأة واتصلت به بين يأس ورجاء، فتأخر مليًا فى الرد فخشيت تمامًا، وقبل أن يحتوينى الحزن على رحيله، جاء صوته واهنًا «أهلا يا صديقى»، وباغتنى «شفت الإشاعة، ليه كده، الناس كلها تتصل بى، وبنتى فزعت، ممكن تكتب إننى على قيد الحياة»، هدأت من روعه وتمنيت له طول العمر، ربنا يبيقك ويخليك.
ورحل سريعاً، هذه المرة صدقت الشائعة، أصابته شائعة مطلوقة فى الفضاء الإلكترونى، واتصلت به مجددا لينفى ما شاع على حوائط الفيس بوك، لكنه خلى بى، لم أسمع صوت النبيل اسمًا ووصفًا، رد علىَّ من عرف نفسه بقريبه، وقال الأستاذ نبيل حالته متأخرة، دقيقتين قضيتهما فى الحديث مع أخى «خالد منتصر»، فى مناقب النبيل نبيل زكى، حتى دهمنى الخبر الحزين من تليفونه نفسه، الأستاذ حمدى، البقاء لله الأستاذ نبيل تعيش أنت.. وكأنه يبلغنى رسالة من النبيل.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
كان نبيلا زكياً فى حكيه وفعله وحبه لتراب هذا الوطن، كان مهضومًا من أهل اليمين وهو من أهل اليسار، مسكونًا بحب هذا الوطن، ولا يرتضى عنه بديلا، مثل أهل اليسار من النبلاء العظام قلبه معلق براية هذا الوطن، واجف عليه، يخشى على حدوده، ومحتشد للدفاع عن ترابه، ويجتهد فى التعبير عن أشواق شعبه فى الحرية والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم.
برحيل العم نبيل زكى يكتمل عام الحزن فى بيت اليسار المصرى، إذا جاء أجلهم، اليسار يقفد جواهر التاج تباعًا، يوم رحل طيب الذكر زعيم اليسار خالد محيى الدين، انفرط العقد الفريد، رحلوا من مشوا وراء نعشه توالياً، الرائعون غادرونا دون أن نظفر بكلمة وداع، رحلوا وسيرتهم باقية، وآثارهم المكتوبة بأقلامهم باقية.
نبيل زكى آخر العنقود، رحل صلاح عيسى، ورفعت السعيد، وحسين عبدالرازق وعبدالعال الباقورى، رحلوا تباعًا، وكأنهم على موعد فى السماء، لم يتأخر أحدهم عن الموعد.. يااااه نفقد الآباء تباعًا، وهم من فقدوا الأجداد قبلاً، من يودع من، من يحمل خشبة من، من يمشى وراء من، سبحان من له الدوام.
نمر بحالة فقد عام، شجرة الوطن تسقط أوراقها فى الخريف، نفقد المناضلين الخلص جماعة، معلوم «ولا يبقى على المداود غير شر البشر»، نعزى أنفسنا، ونغتبط، السماء تختار فقط من تحب، ومن أحبه ربه حبب فيه خلقه، وهذا نبيل يرحل، الفيس مجلل بالسواد، كتب نعيه أجيال لم تتعرف عليه حق المعرفة، نعاه صغار وكبار، نعاه بشر ربما لم يعرفوا قدر نبله وعظم تضحياته ومنتهى إخلاصه لما يعتقد.
بالدمع جودى يا عين، على رصيف مسجد عمر مكرم كان لقاؤنا الأخير، يومها كتبت عن حزنه العميق على رفيق الدرب حسين عبدالرازق، ولا تزال كلمته الباكية ترن فى أذنى «مع السلامة يا حسين سلم لى على صلاح»، مكتوب على جيلنا الحزن على الكبار، لم نشبع منهم، ولم ننهل من إخلاصهم، تركونا على رصيف بارد، تاهت الخطى لا نعرف يمينًا نسير أم يسارًا، كانوا أصحاب يقين، وتلح عليهم فكرة، واستولى عليهم إخلاص للقضية.
ثلة من الخلص الأوفياء، لا باعوا ولا اشتروا، وارتضوا بالقليل، ويوم نصب الفسطاط الكبير فى «فيرمونت» كانوا له من الرافضين، وعندما هتف أزلام القوم على جيش مصر نفروا مدافعين، لم يفرطوا ولم يغادروا الميادين جريًا وراء غنيمة، كانت رؤاهم شفافة، وطريقهم واضحة، وهدفهم نبيلا، كانوا نبلاء ومنهم النبيل، نبيل زكى، يرحمه الله.