فى الطريق إلى العنوان، عوامل بعينها جعلت من الولايات المتحدة الأمريكية نموذجاً فريداً من الوجهة السياسية. وليس فقط كونها القطب الأوحد المتزعم للنظام العالمى منذ أسقط الدب الروسى مطلع التسعينات من القرن الماضى، وأطاح بالثنائية القطبية إلى رفوف التاريخ، معلناً ميلاد "القطبية الأحادية" بانتهاء الحرب الباردة التى اندلعت بواكيرها بين الطرفين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1 سبتمبر 1939 ــ 2 سبتمبر 1945)، وما صاحبها من تقدم تكنولوجى هائل، وانفاق عسكرى ضخم، وحروب غير مباشرة بين القطبين، بموجب ما بينهما من تنازع على اقتسام النفوذ على الكرة الأرضية، امتد إلى غزو الفضاء.
بداية دعك من المشاعر السلبية التى تحوزها تجاه الولايات المتحدة جراء انحيازها التام لإسرائيل؛ فإدراك منطق سياسى صحيح لا يلزمه، فى كثير أو قليل، حديث تقوده العاطفة، قدر ما هو بحاجة إلى ارتكاز راسخ على معايير موضوعية جادة، عليها وحدها تأسست العلاقات الدولية المعاصرة، التى لا عزاء فيها لمفاهيم الأخوة والصداقة والود وغيرها من مفردات القاموس الإنسانى.
لو اقتنعت بما سبق، أكمل واقرأ الملاحظات التالية:
ضع خطاً فاصلاً واضحاً بين "السياسة الأمريكية" و"المجتمع الأمريكى". الأولى لك أن تختلف معها كما تشاء. لكن أرجوك دون عواطف ومستخدماً معيار "المصلحة"، باعتبار السياسة "فن المصلحة"، مصلحة القائم على السياسة، لا مصلحتك أنت ولا غيرك. عنئذ تدرك حقاً كم أن "السياسة الأمريكية" اعتلى بها "المجتمع الأمريكى" قمة المجتمع الدولى اقتصادياً وعسكرياً. أما "المجتمع الأمريكى" فليس لك إلا أن تتعلم منه كيف نجح بامتياز فى بناء دولة مدنية حديثة بالفعل، تستند إلى قيم سيادة القانون والتداول السلمى للسلطة والشفافية وحرية الرأى والتعبير والمسائلة والمحاسبة.... إلى آخر مبادئ الحكم الرشيد المعروفة. ولا تنسى أن "السياسة الأمريكية" أنتجت هذه المخرجات المجتمعية من مكونات شديدة التباين، عرقياً وثقافياً. أرجوك لا تحدثنى عن العبودية فى المجتمع الأمريكى القديم، فقد أزالتها "السياسة ألأمريكية"، بموجب التعديل الثالث عشر للدستور الأمريكى (عام 1865)، واختفت فعلياً بعد سنوات قليلة. ومن ثم فإن حوادث فردية وتحليلات إعلامية، تطفو على السطح من آن لآخر لا يصح أبداً القياس عليها والزعم بأن "العنصرية" لطالما تطل برأسها على "المجتمع الأمريكى" الحديث؛ فذلك حديث العاطفة وقد اتفقنا على إهمالها!.
وعليه، تسقط كل دعاوى استبدال العلاقات الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، بغيرها أسهل مع التنين الصيني، أو غيرها أوقع مع الدب الروسى، أو حتى بالتاريخ والجغرافيا مع القزم السياسى "الاتحاد الأوروبى". فلا سبيل فى العلاقات الدولية المعاصرة إلى تجاهل القوى الإقليمية، فما بالك بالقوة العظمى، والقطب الأوحد للنظام العالمي. والجدير بنا ونحن نبنى دولة نريدها مدنية حديثة، أن نمتلك القدرة على الانخراط بقوة وصدق فى منظومة العلاقات الدولية، بكل ما فيها من تباينات وتقاطعات. ولو تسمع نصيحتى وأنت تقرأ العلاقات الدولية المعاصرة، اعرف أنك على الطريق الصحيح للفهم، لو وصلت إلى تناقضات!، عندئذ أنت وصلت إلى الحقائق. مثال: الولايات المتحدة أسقطت نظام صدام حسين (عام 2003)، أعدى أعداء إيران، وإيران أعدى أعداء الولايات المتحدة نفسها!، فكانت النتيجة أن وقع العراق فى يد إيران!. وغير ذلك كثير تابعه بنفسك على الساحة الإقليمية والدولية، إلى أن نلتقى فى مقال آخر قريب بإذن الله، فنكمل حديثنا عن إدراك حقيقى للعلاقات الدولية المعاصرة.