فجأة وبمقدمات مثل المذبحة المروعة التى تعرض لها مصلون أبرياء فى مسجدين بمدينة "كرايست تشيرش" المسالمة فى نيوزيلندا، انهالت آلاف الرسائل عبر تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، هجومًا ودفاعًا، فى مختلف دول العالم، وتحول الإسلام إلى مادة للتجاذب بين اتباعه والآخرين، ولكن أكثر ما يلفت الانتباه فى هذه التدفقات الافتراضية الهائلة عبر "السوشيال ميديا" أنها تحوى ما يشبه النصوص المعدة مسبقًا وبشكل احترافى حول معارك تاريخية، بعضها انتصرت فيها الدولة العثمانية، والأخرى كان للأوربيين النصر فيها!
استدعاء معارك تاريخية بهذا الشكل التفصيلى للانتصار لوجهات نظر أيديولوجية محددة، مع أو ضد، هو استحضار منهجى مدروس لفكرة صراع الحضارات والأديان، وهو صب للزيت على نار الفتن، وتأجيج غير برىء أو بالأدق "مشبوه"، يستهدف شحن نفوس الشباب ضد الآخر، سواء كان مسلمًا أومن اتباع ديانات ومعتقدات أخرى أو حتى من اتباع اليمنى القومى العنصرى المتطرف.
ندرك أن "السوشيال ميديا" باتت ساحة عالمية لتبادل الأفكار والآراء، ولكن علينا أن ندرك أيضًا أن هناك من يستخدمها فى إشعال الصراعات ضمن ما يعرف بحروب الجيل الرابع، وهذه ليست من تجليات نظرية المؤامرة التى يتهم البعض المثقفين العرب بتبنيها والترويج لها، فهى جزء لا يتجزأ من تاريخ العمل السياسى والعلاقات الدولية، فى مختلف الدول عبر التاريخ القديم والمعاصر معًا.
فى ظني، أن هذا الاستدعاء الافتراضى المفاجئ لتاريخ معارك قديم وقع على أساس ديني، والبحث فى نتائج محطات تاريخية فاصلة بين الإسلام والغرب مسألة مدروسة بعناية، وأن هناك من يدفع بقوة باتجاه تأجيج الصراع الدينى وتحويله إلى صراع دموى خلال السنوات المقبلة، ومن لا يعتقد بذلك عليه أن يقرأ فى أسباب اندلاع الحروب العالمية السابقة، وأنها تبدأ من مستصغر الشرر، وأن على عقلاء العالم أن يدركوا أن البيئة العالمية فى القرن الحادى والعشرين مواتية للصراع بدرجة مساوية للتعاون، فالأفكار تنتشر عبر العالم بسرعة البرق، سواء كانت أفكار خير أم شر، ودعاة الفتن ومروجى نظرية صراع الأديان لن يجدوا بيئة أكثر مثالية مما هو حاصل لإشعال هذا الصراع فى ظل غياب التشريعات والقوانين التى تتعاطى بشكل واع مع هذا الطوفان الهائل من المعلومات عبر الإنترنت من دون رقابة من الدول والسلطات المعنية فى العالم أجمع.
من يعتقد بأننا نبلغ فى مثل هذه التصورات عليه أن يدرك أن المجرم الإرهابى الذى ارتكب مذبحة "كرايست تشيرش" كان ينشر أفكاره على صفحته قبلها بسنوات، ونشر خطة ارتكاب الجريمة قبل تنفيذها بنحو ثلث ساعة تقريبا، ومع ذلك استطاع ارتكاب جريمته فى بلد مسالم لم يذهب فيه الخيال الأمنى إلى سيناريو بشع كالذى خطط له المجرم! وبالتالى على العقلاء ولو من باب الحذر والتحسب، توقع تكرار مذبحة مثلها تتسبب فى نشوب حرب عالمية ثالثة أو صراع دينى واسع النطاق!
هناك فى العالم اليوم قادة وساسة يتصدرون المشهد التحريضى بامتياز، وهناك دول باتت تقوم باستدعاء صراعات التاريخ واستهام ذكريات الماضى فى سياسات الحاضر، وفى مقدمة هؤلاء يأتى ملالى إيران الذين يستحضرون صراع الإسلام مع القومية الفارسية، وهناك القادة الأتراك الذين يستحضرون مجد الإمبراطورية العثمانية فى سياساتهم ومسلسلاتهم التاريخية التى تغذى التطرف القومى الدينى لدى ملايين الشباب المسلم، وهناك فى الغرب أيضًا من يتبنى سياسات معادية للهجرة واللاجئين ويغذى فكرة التفوق الأبيض، وهناك بطبيعة الحال "القاعدة" و"داعش" وكل تنظيمات الإرهاب التى تقتات على سفك الدماء!
على حكماء العالم أن يفيقوا لما ينتظر البشرية من خطر تصاعد التطرف القومى والدينى والعنصري، فكل الإرهاب ينبع من منبت واحد، وكل ما يجافى فكرة التعايش والوسطية والاعتدال هو تطرف يؤدى إلى الإرهاب ويجب اجتثاثه من جذوره، ويجب على العالم أن يدرك، بل وآن الأوان أن يدرك، أن هناك فاصل حاد بين التطرف وحرية الرأى والتعبير، وأن تجاوز هذا الحد يمثل تهديدًا للمجتمعات، فالحرية لها حدود وليس كما يشاع بانها سقف غير محدود، وإلا فعلى الجميع أن يسلم ويقبل توابع الفوضى والعنف والإرهاب.
إن أى باحث موضوعى يدرك أن تطور الظاهرة الإرهابية يمر بمراحل عدة، وأنها تتدرج بتصاعد واضح نحو ذروة الإرهاب والعنف التى لم نبلغها بعد، فداعش كان تدرجًا لإرهاب القاعدة، وأعتقد أن ما يحدث من حولنا، لاسيما على الصعيد التعبوى عبر السوشيال ميديا، ينبئ بأن العالم سيواجه جيلاً إرهابيًا جديدًا أخطر بمراحل من الجيل الداعشي، ويمكن استنتاج ذلك من القدرات الافتراضية المتزايدة على التحريض ونشر الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعى من أجل تغذية وشحن فكرة صراع الأديان بالمزيد من المتعاطفين والمؤيدين والمناصرين لها، وعلينا أن نستوعب دروس الماضى القريب ونتصدى لهذا الخطر قبل أن نفيق على وقع مذبحة جديدة ضد هذا الطرف أو ذاك.