نظلم الثقافة العربية إن لم نُقرنها بسياقها المجتمعى فى العالم العربى، فهى، بواقعها غير المقبول، وليدة معطيات كثيرة أفرزتها الظروف التى مرت وتمر بها الأمة العربية؛ ومن ثم تعانى الثقافة العربية عزلة، وانكفاء على الذات، ورغبة دائمة فى الارتداد خلفاً، أستثنى من ذلك خطوات هنا أو هناك، لا يجمعها استراتيجية عربية حاكمة.
وقد كان من المحتم على الأمة العربية أن تواجه الثورة التكنولوجية الاتصالية باستراتيجية تضمن استيعاب الحداثة دون التفريط فى الهوية والخصوصية الثقافية، وحرى بالحكومات العربية العمل بجدية على تحديث وسائل وأدوات زيادة الوعى العام، ولعل فى مقدمتها تجديد الخطاب الديني؛ لما للدين من مكانة مرموقة فى الضمير العربى عامة، فضلاً عن انعكاساته على تناول واستيعاب المواطن لكثير من مفردات الثقافة، وهو أمر يبدو ليس بالقريب؛ ففى مصر يبذل الأزهر محاولات فى هذا الشأن لكنها إلى الآن تبدو غير كافية.
ومن المعروف أن الترجمة تعد وسيلة فعالة للتواصل الثقافى بين الشعوب، ونقل المعارف، سواء للبناء على ما أنجزته الشعوب الأخرى، أو لتكييف الواقع العربى ليتناسب مع الحديث فى الفكر والعلوم المتقدمة، وبالنظر إلى طردية العلاقة بين حركة الترجمة وحركة الثقافة فى المجتمع، أود الإشارة إلى بعض المشكلات التى تواجه الترجمة فى العالم العربي، لعل أهمها غياب قاعدة بيانات دقيقة عن حركة الترجمة العربية، والميل نحو ترجمة الأدب أكثر من ترجمة العلوم بشكل عام، وبالتالى نفتقر إلى ترجمة مبنية على منهج يراعى احتياجات الثقافة العربية، كما أن الترجمة العربية فى معظمها من الإنجليزية، تليها الفرنسية على استحياء، ولا وجود تقريباً للغات الأخرى، ثم أن حركة الترجمة العربية تعتمد كثيراً على المجهود الفردي، دون مشروع عربى متكامل على غرار مشروعات عصر النهضة، رغم وجود مشروعات متفرقة فى عدد من الدول العربية مثل مشروع "كلمة" فى هيئة أبو ظبى للتراث، ومشروع الترجمة الذى تنفذه المنظمة العربية للترجمة فى لبنان، لكننا نفتقد سياقاً عربياً يمتلك من الأسس النظرية والتطبيقية ما يدفع به إلى مستوى الطموحات.
وفى تقريرها عن العام 2017، أكدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألسكو" أن معدل الأمية فى العالم العربى ما زال مرتفعاً مقارنة بدول العالم النامي، حيث إن 21% من العرب يعانون من الأمية، مقارنة بمعدل عالمى يبلغ 13.6%، وجاء فى التقرير أيضاً أن 13.5 مليون طفل عربى تسربوا من التعليم النظامى جراء الحروب والنزاعات المسلحة، ورغم هذا الواقع المرير إلا أن الموضوعية تفرض علينا أن نشير إلى أنت معدل الأمية فى الوطن العربى انخفض بالفعل من 73% للفئة العمرية 15 عاماً فما فوق عام 1970، إلى 48.8% عام 1990، ثم 38.8% عام 2000.
من جهة أخرى، فإن العلاقة طردية أيضاً بين الثقافة والتعليم، صحيح أن ليس كل متعلم مثقفاً، إلا أن التعليم يشكل اللبنة الأولى فى صرح الثقافة، وأسوق عن واقع التعليم فى العالم العربي، من واقع التقرير المتعلق بجودة التعليم والبحث العلمى 2017/2018، الذى أصدره المنتدى الاقتصادى العالمي، أن 4 دول خليجية تصدرت التقييم عربياً، والأمر نفسه بالنسبة للبحث العلمي، ما يفيد ارتباط جودة التعليم والبحث العلمى بمستوى المعيشة، كما أن 9 دول عربية فقط بين أفضل 100 دولة فى جودة التعليم، مقابل 9 دول فى مجال البحث العلمي، ما يفيد بتلازم جودة التعليم وتميز البحث العلمي.
على الجانب الأخر، ونظراً لتفوق ماضينا على حاضرنا، ينبغى أن نسأل أنفسنا: هل نحن أمة "ماضوية" حقاً، تعيش فى ماضيها، تتغنى به، وتزهو بإنجازات الأجداد؟!، المتابع للثقافة العربية يتأكد من ذلك، ومنثم نعجز عن اختراق آفاق أبعد بلغتها الثقافات المعبرة عن مجتمعات نهضت بقوة على طريق التنمية المستدامة.
كما أن ثورات الربيع العربي، رغم أنها تعبر عن رغبة فى التغيير إلى الأفضل، إلا أنه قد صاحبها بعض المظاهر السلبية؛ فشاعت الفوضى وهى نقيض للمعرفة.
كذلك فإن تكنولوجيا المعلومات أنتجت نوعاً من الثقافة المسطحة السهلة، البعيدة عن الرصانة والفكر الناقد، بما تقدمه من معلومات سريعة أغرقت العقل العربى فى دوامات التسلية أكثر من حب المعرفة.
والواقع أنه إلى حد بعيد يرتبط الإبداع بمناخ الحرية القادر على إطلاق المواهب واستلهام الفكر المبدع، ولست أحتاج إلى الإشارة إلى ضعف المحتوى الديمقراطى فى عالمنا العربى الغارق فى غياهب رفض الآخر، وإلغاء التعددية، ونبذ الجديد غير المعتاد، وعليه، وفى غياب الإبداع لا تسأل كثيراً عن الثقافة، صحيح أن بعض الدكتاتوريات أنتجت بعضاً من مفردات الثقافة المتميزة، مثل الاتحاد السوفيتى السابق، الذى أنتج إبداعات خالدة فى المسرح والموسيقى والباليه والآدب، لكن السياق الراهن المشمول بثورة الاتصالات والانفجار المعرفي، لا يتيح تكرار الأمر ذاته الآن، بل تنمو الإحباطات وتغادر الملكات الفكرية العقول المشغولة بحلم تقليد الرفاهية.
وأحدثك ولا حرج عن معاناة الثقافة العربية جراء تناقض شديد بين جيلين، أولهما يتمسك بالماضي، ويرفض استيعاب أدوات وآليات الثقافة الحديثة، وجيل آخر ناشئ أو شاب لا يمت بصله لتاريخه، ويتفرغ تماماً لتناول الثقافة بوسائلها الحديثة، أذكر هنا أن كُتاباً نحسبهم من "العيار الثقيل" ولا يعرفون الكتابة على الحاسب الآلى إلى الآن ويتمسكون بالورقة والقلم وهم يكتبون مقالات وأخبار عن حتمية "الحداثة"!، مقابل جيل أتقن التعامل مع تكنولوجيا الاتصال والمعلومات ويجهل مفردات لغته العربية، هذا التناقض يخلق فجوة كبيرة داخل كل مجتمع، ويُباعد فرص إنتاج حوار مجتمعى حقيقي.
كذلك فإن معاناة الثقافة العربية واضحة جراء رواج نظرية المؤامرة، وصعود سهم القومية بضغط من منظومة علاقات دولية لا ترحم، فيحدث النفور من الثقافات الغربية، باعتبارها وسائل استعمار مستحدثة، وتصبح أهمية قضية التعريب ليست على سبيل تأكيد الخصوصية، قدر ما هى رفض للغرب، وأفسرها، بصدق وموضوعية، بأنها تعبير عن عدم القدرة على استيعاب ما سبقتنا إليه المجتمعات المتقدمة من فكر.
ولا تهمل ذكورية المجتمعات العربية، فإنها تسحب كثيراً من قدرتنا على إنتاج ثقافة متنوعة متشعبة تتمتع بالمعاصرة والحداثة، ولا يخفى علينا ارتفاع الأمية والبطالة بين النساء عنها بين الرجال، وعليه فجزء كبير من طاقة المجتمعات العربية معطلة عن العمل العام.
وختاماً، لا أرفض حديثاً يؤكد أن العالم العربى يعانى أزمات سياسية، ومشكلات اقتصادية، وعقبات اجتماعية، لكننى وبهدوء، أُصر على أن المشكلة حضارية بالأساس.