لا شك أن الحديث عن النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، وما يحكمه من مبادئ وقيم، يُعد مدخلاً ملائماً لفهم وإدراك حقائق العلاقات الدولية المعاصرة علي نحو يضمن الإلمام بقواعدها وتفاعلاتها علي الأرض، بعيداً عن النظريات الجامدة وما بها من تأصيل ربما لا يحتاجه القارئ كثيراً لمتابعة ما يدور علي الساحتين الإقليمية والدولية من أحداث، وما يتشكل أمامه من تحالفات ومحاور، تترك آثارها بوضوح علي حياة الناس، وإن كان بشكل غير مباشر.
وعليه، فإن ملاحظات بعينها أود طرحها في إيجاز سريع، علي النحو التالي:
مع انتصار الولايات المتحدة، وتفكك الاتحاد السوفيتي السابق، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، راجت في دوائر عملية صناعة القرار الأمريكية مناقشات جادة، تتمحور حول مجموعة من الاتجاهات، تبنت جملة من الأفكار، يمكن رصدها إجمالاً في الفرضية التالية: هل تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في زعامة النظام العالمي؟ مع ما يكلفها ذلك من مخاطر تطال أبنائها في الخارج، إلي جانب الإنفاق الهائل من أموال دافعي الضرائب. وقد انتصر بالفعل أصحاب اتجاه الحفاظ علي زعامة أميركا للنظام العالمي رغم زوال عدوها ومنافسها الأول. وقد استند أصحاب هذا الرأي إلي أن ما تجنيه الولايات المتحدة من مصالح جراء زعامتها للنظام العالمي، يفوق أي تهديدات وأي أموال تنفقها في سبيل ذلك. وذهبوا إلي أن التراخي في إحكام قبضة الولايات المتحدة علي النظام العالمي يمثل تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة وأمنها القومي ومصالحها العليا.
عملية صناعة القرار الأمريكي، التي حدثتك عنها في الفقرة السابقة، شديدة التعقيد، وواسعة إلي حد كبير. فهي دوائر متداخلة، مكوناتها شديدة التباين. فإلي جانب المؤسسات الرسمية الرئيسة للدولة، البيت الأبيض، الكونجرس بغرفتيه (النواب والشيوخ)، وزارة الخارجية، البنتاجون، أجهزة الاستخبارات...إلخ، نجد أيضاً اللوبيات المختلفة التوجهات، ووسائل الإعلام، ومراكز التفكير والبحث...إلخ. ومن هنا تجد الرئيس السيسي، وأي رئيس يزور واشنطن يحرص علي إجراء مقابلات مع جهات متعددة مما ذكرت، وليس مع الرئيس فحسب، فكل هؤلاء يشاركون في عملية صنع القرار الأمريكي. وإن كان بدرجات ونسب متفاوتة.
بطبيعة الحال فإن موازين القوى لهذه المكونات تختلف وفق موضوع القرار وما تفرضه الظروف من حيث السرعة والكُلفة والأثر الناشئ عن القرار. وبشكل عام فإن اتساع عملية صناعة القرار ترتبط طردياً مع مستوى ما حققته الدولة علي طريق الديمقراطية. ففي دولة مثل إيران مثلاً، حيث النظام الشمولي المغلق، تتركز بؤرة صناعة القرار في المرشد الأعلي ودائرة صغيرة جداً تحيط به من أهل الثقة. وعلي العكس تتسع عملية صناعة القرار الأمريكي علي نحو ما بينت عاليه. وهنا يبرز مفهوم "مؤسسية الدولة" كأساس في النظم الديمقراطية الديمقراطية، ومكون رئيس في بناء الدولة المدنية الحديثة.
رغم الصلاحيات الكبيرة التي منحها الدستور الأمريكي للرئيس، فإن يده إلي حد كبير مغلولة عن اتخاذ قرارات بعينها دون الرجوع إلي الانخراط في عملية صناعة القرار المعتادة في النظام الأمريكي. كما أن الانتماء الحزبي في الولايات المتحدة ضعيف. بمعني أن نواب الحزب في الكونجرس الأمريكي لا يلتزمون حرفياً بتوجهات الحزب. وحدث كثيراً أن وجد قرار للرئيس معارضة في الكونجرس من جانب أعضاء ينتمون إلي نفس حزب الرئيس، سواء جمهورياً كان أو ديمقراطياً. الأمر الذي يُضفي الحيوية علي النظام الأمريكي. وعلي العكس من ذلك جرت التقاليد في بريطانيا، أعرق الديمقراطيات المعاصرة، علي التزام كبير من جانب النواب بمواقف وتوجهات حزبهم، سواء العمال أو المحافظين أو غيرهم من الأحزاب الصغيرة. لاحظ في ذلك معاناة رئيسة الوزراء البريطانية "ماي" في محاولات تمرير اتفاقها حول البريكست، لكن دون أن يتمكن خصومها من إسقاطها، لوقوف أعضاء حزبها معها عند وجود خطر يتعلق بإمساك حزبهم مقاليد الحكم، إلا أن هذا لا ينفي أبداً أن "ماي" تجد منافسة من داخل حزبها، لكن سقوطها بيد خصومهم...فلا!. وتحت هذه الضغوط، داخل وخارج حزبها، بالفعل أعلنت "ماي" عزمها الاستقالة قبل جولة المفاوضات المقبلة مع الاتحاد الأوروبي حول البريكست.
وإلي حديث قريب بإذن الله.