بعد 22 شهرا من التحقيقات المستمرة، خلص رويرت مولر، المحقق الخاص فى قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية الرئاسية 2016، إلى عدم توجيه أى اتهامات للرئيس الأمريكى دونالد ترامب أو أيا من أعضاء حملته الانتخابية بالتواطؤ مع روسيا. النتائج جاءت بالطبع صادمة لتيار اليسار الأمريكى، الذى يمثله الحزب الديمقراطى ووسائل الإعلام الرئيسية، التى شنت طوال أشهر التحقيق حملة صاخبة لا هوادة فيها ضد خصمهم فى البيت الأبيض.
منذ تولى ترامب منصبه فى البيت الأبيض استثمر ذلك التيار جهودا ضخمة فى الدعاية المضادة، وبالفعل حققوا مكاسب جراء هذه الدعاية فاستطاع الحزب الديمقراطى استعادة السيطرة على مجلس النواب فى انتخابات الكونجرس، نوفمبر الماضى، وحصلت صحيفتا نيويورك تايمز وواشنطن بوست، العام الماضى على جائزة بوليترز فى تغطية قضية التدخل الروسى، المزعوم.
لكن مع انتهاء المحقق الخاص من مهمته وإصدار تقريره دون إدانة لترامب أو دائرته، تواجه هذه الدوائر ضربة كبيرة، فبالنسبة للإعلام الأمريكى فإن الأمر ينتقص كثيرا من مصداقية تلك المصادر الإعلامية التى اعتاد ترامب وصفها بإعلام "الأخبار المزيفة"، وبالنسبة للحزب الديمقراطى تحول الأمر لحرب سياسية مع انطلاق حملات الانتخابات الرئاسية 2020 لكسب الأصوات.
السؤال الآن هو: ماذا بعد تقرير مولر؟
من الواضح أنه لا الإعلام الأمريكى ولا الحزب الديمقراطى استسلما لنتائج التحقيقات، فسرعان ما هرعا إلى التشكيك فى نزاهة وزير العدل الأمريكى، الذى أعلن ملخص ما جاء فى نتائج تحقيق مولر، باعتباره من رجال ترامب الذين عينهم الرئيس نفسه، وتتعالى الأصوات حاليا لإطلاع الكونجرس على التحقيق كاملا، رغم ما يحمله من سرية ومن معلومات تتعلق بالأمن القومى التى لا يجب كشفها.
حشد الزخم وراء هذا الأمر هو محاولة لغسل ماء الوجه، لكنها أيضا حلقة مهمة فى الدعاية السياسية، لاسيما، مع انطلاق حملات الانتخابات الرئاسية 2020. المثير أنه حتى مع إعلان وزير العدل ويليام بار أنه سيسلم التقرير، المكون من 400 صفحة، للكونجرس فى إبريل الحالى بعد تنقيحه من المعلومات السرية المتعلقة بالأمن القومى، واصلت تلك الأطراف دعاياها القائمة على بث الشك فى نفوس الأمريكيين بشأن فساد الإدارة الحالية وهى محاولة لقطع الطريق على ترامب للحصول على فترة رئاسية ثانية.
ذهب الديمقراطيون وحلفاؤهم من وسائل الإعلام الأمريكية، الساعون إلى أى خيط لتوريط خصمهم فى البيت الأبيض، للتشكيك فى عملية تنقيح تلك المعلومات السرية التى قد تحمل المفتاح للوصول إلى الأدلة الأساسية. ومن جانب آخر يواصلون الدفع بتحقيقات فى قضايا أخرى مثل علاقاته التجارية حتى قبل توليه منصبه ودوره فى دفع مبالغ نقدية خلال الانتخابات لنساء زعمن علاقات جنسية معه خارج إطار الزواج، وتحقيق خاص بلجنة تنصيبه وخططه الضريبية.
يتعلق القسم الثانى من تقرير مولر بتهمة عرقلة سير العدالة، ووفقا لبار، فحص مولر "عددًا من الإجراءات التى اتخذها الرئيس... كإثارة مخاوف تتعلق بعرقلة العدالة". وقد تشمل هذه الإجراءات قيام ترامب بإقالة جيمس كومى، مدير مكتب التحقيقات الفيدرالى أو هجومه على تحقيق مولر، أو هجومه العلنى لمايكل كوهين، محاميه السابق، بعد أن أقر بالذنب وزعم تورط ترامب فى دفع الأموال لستورمى دانييلز لشراء صمتها عن علاقة قديمة جمعتهما، وهو يمثل انتهاك لقانون تمويل الحملة الفيدرالية. لكن فى النهاية، لم يوص المحقق الخاص بمحاكمة ترامب بتهمة عرقلة العدالة.
لكن على أى حال لا يزال للكونجرس السلطة للتحقيق فى القضايا المختلفة وهو ما سيدفع بزخم إخبارى واسع فى حرب ظاهرها كشف الفساد وباطنها انتخابات الرئاسة، لكن الثابت هنا هو استمرار الانقسام داخل المجتمع الأمريكى وحالة الاستقطاب غير المعهودة التى لعب فيها الإعلام دورا رئيسيا بل دور البطولة. كما أن تقرير مولر سيصعد هذه الحرب وسيعيد، مجددا وبقوة، طرح السرد الخاص بعزل ترامب كأداة فى الحملة لانتخابات 2020.