كلما وجدت كتابا أساسيا من كتب التراث العربى، أدبا أو فلسفة أو سيرة أو تاريخا، وقد أعيد طبعه طباعة معقولة وبسعر زهيد، حمدت الله وشكرت فضله أن وفق جهة ما للرفق بالأجيال الطالعة من المصريين، فهذه الأجيال مستهدفة بالركاكة والقبح والرداءة من كل ناحية، من ناحية الثقافة العصرية عبر مواقع التواصل الاجتماعى، أو من ناحية الأدب المعاصر المتمثل فى الأشعار الرائجة والأغانى الذائعة والمسرحيات الشائعة، فضلا عن صنوف الفنون التى تحولت إلى صناعة شعبية ربحية فى المقام الأول لا تراعى ذوقا ولا تهتم بخيال ولا تكون ذائقة أو تحمى هوية.
أكتب هذه الكلمات بمناسبة صدور كتاب الإمتاع والمؤانسة للعلامة الفيلسوف المحدث والراوية والفقيه وعالم اللغة أبو حيان التوحيدى، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ضمن سلسلة الذخائر، فى ثلاثة أجزاء بتحقيق الأستاذين الراحلين أحمد أمين وأحمد الزين، وهو إضافة كبيرة لمكتبات الأجيال الجديدة ومحبى الثقافة والإطلاع والأدب، خصوصا لسعره الزهيد جدا وطباعته المعقولة وإخراجه الجيد، ويكفى أن يكون مثل هذا الكتاب فى مكتبات البيوت، حتى يكون بمثابة الحافظ والموجه للأبناء الذين يتلمسون طريقهم للقراءة فى سن التكوين، فإذا صادفهم الغث من المؤلفات والكتب، تشكل ذوقهم وخيالهم على مقاسه، وإذا صادفهم الرفيع والسامى من المؤلفات تشكلت ذائقتهم رفيعة وسامية ومحبة للأدب الرصين، فضلا عن إحاطتها باللغة العربية.
وهذا الكتاب تحديدا، هو كتاب تراجيدى فى طبيعته وأسباب تأليفه، وهو يشبه إلى حد كبير مؤلفه العلامة أبا حيان التوحيدى الذى عاش حياة صعبة ملؤها الشقاء والضنك، لم ير إلا القليل من أيام السراء وغلبت عليه الضراء، فعاش على الكفاف، بل إنه اضطر إلى التسول والشحاذة وقاسى الغربة والجوع والقهر والإنكار، حتى اضطر إلى أكل حشائش الأرض عندما أدار له المعارف والأصدقاء ظهورهم، وهو بحياته ومآسيه، يمثل نموذجا للأديب الحق صاحب الموهبة اللامعة الذى يقاسى فى حياته وأحيانا بعد مماته لاختلافه وتفرده، فهو يقاسى من امتلاكه للوعى والموهبة والقدرة، لأنه يرى الأمور على حقيقتها ويسبر جواهر الأشياء، ويرى الأغبياء والجهلة والأنصاف والأرباع يتقلدون المناصب ويجنون الأموال الكثيرة، بينما هو يقاسى ويعانى من شظف العيش حتى لينكر على نفسه فى أحيان كثيرة لعنة الموهبة وجريمة امتلاك الوعى، حتى ليتمنى أن يكون من بين الجهلة السعداء بجهلهم.
ولم يكن حظ أبى حيان بعد وفاته أفضل من حياته، فقد أنكره المؤرخون ولم يخصوه بالكثير من التراجم، مع أنه فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، الذى اشتهر بالقدرة والفصاحة والثقافة الموسوعية عند الأمراء والوزراء وغار منه مشاهير زمانه فى العلم والأدب، وربما يأتى هذا الإنكار الذى وقع فيه المؤرخون الذين جاءوا من بعده، أنه فى لحظات اليأس قبل وفاته، قرر أن يحرق مؤلفاته كلها غضبا على الناس وكراهية لهم، بعد أن قابلوا علمه وأدبه بالتجاهل والجحود، قائلا: « إنى جمعت أكثرها للناس وطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فحرمت ذلك كله ... ولقد اضطررت بينهم بعد العشرة والمعرفة فى أوقات كثيرة إلى أكل الخضر فى الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة وإلى بيع الدين والمروءة»، ولم يبق من كتبه التى تقارب العشرين إلا «المقابسات» و«الصداقة والصديق» و«رسالة فى العلوم» و«الإمتاع والمؤانسة».
وتأليف الإمتاع والمؤانسة نفسه له قصة، ذلك أن أبا الوفاء المهندس كان صديقا لأبى حيان وللوزير أبى عبد الله العارض، فقرب أبا حيان من الوزير، ووصله به حتى أصبح أبو حيان من مسامرى الوزير ومن صحبته المقربة، لمدة قاربت الأربعين ليلة، ثم طلب أبوالوفاء المهندس من أبى حيان أن يقص عليه كل ما دار بينه وبين الوزير حرفيا، وذكره بفضله السابق عليه وهدده بقطع معونته عنه، ذلك أن أبا الوفاء المهندس كان يعرف أخبار الدولة، ويكتشف فيما يفكر الوزير الأول من خلال أفكاره التى يطرحها فى مجلسه وأسماره، وما كان من أبى حيان إلى أن يدون حرفيا ما دار فى مجلس الوزير أبى عبد الله العارض وأخبار المسامرة والنقاش والفلسفة والمباحث التى دارت، وشغلت المجلس طوال أربعين ليلة، فجاء الكتاب على صورة ألف ليلة وليلة، ولكن مع الفارق.
فإذا كان ألف ليلة وليلة هو الكتاب الشعبى الأول للعرب منذ قرون، يشتمل على مغامرات ومسامرات وقصص الملوك والشطار والفرسان والدون من الناس، فإن كتاب الإمتاع والمؤانسة أو ليالى الإمتاع والمؤانسة فى أجزائها الثلاثة، جاءت ضربا من المغامرات العقلية والمسائل الفقهية والأحاجى الأدبية والاستعراضات اللغوية، حتى يمكن القول إن هذا الكتاب هو ألف ليلة وليلة الخاص بالنخبة المثقفة فى نهايات القرن الرابع الهجرى وبدايات القرن الخامس، وهو كنز من الإجابات عن مسائل أدبية وعلمية ودينية، يكفى أن توجد فى المنازل وينشأ عليها الشباب الصغير حتى نضمن خيالا خصبا وذائقة رفيعة ولغة سليمة.